يصعب كثيرًا في مثل هذه الأيام الماحلة والقاحلة التفتيش عمّا يريح المواطن العادي الساعي إلى لقمة عيش أهل بيته بعرق الجبين. فالهموم تلاحقه كيفما اتجه. يحاول التخّلص من بقايا المشاكل، التي قذفتها سنة 2023 إلى شواطئ سنة 2024، لكنه يعود فيقع فريسة الهواجس في كل محاولة من محاولات معروفة النتائج سلفًا. فلا الحركة الداخلية ستؤدّي إلى ما يُرجى منها، مع أنها مطلوبة في كل الأوقات، وبالأخصّ في مثل هذه الأيام، التي يحتاج فيها المواطن إلى من أو ما يخفّف عنه بعضًا من أحماله الثقيلة. وإن لم تحقّق هذه الحركة مبتغاها من حيث الفائدة المباشرة فإنها بالتأكيد لن تضرّ. فالتواصل بين اللبنانيين حتى بين المختلفين على أمور كثيرة مطلوب في كل آن، وهو سيؤدي في نهاية المطاف إلى ما من شأنه تلطيف الأجواء المشحونة، والتقريب بين وجهات النظر على قدر ما تسمح به الظروف الموضعية لكل فريق، الذي يتمترس وراء مواقف متصلبة ومتشنجة، فيصبح أسيرها، بحيث تصبح عملية الخروج من خيوطها العنكبوتية أمرًا غير سهل.
ولأن المواطن العالق بين شاقوفين مكبّل ولا يستطيع الحراك إلا ضمن دائرة محدودة جدًّا فإن الخارج الممثّل باللجنة الخماسية سيبدأ، على ما يبدو، بالسعي إلى إقناع من يجب إقناعهم بأن ربط الأزمات الكثيرة في لبنان، ومن بينها الأزمة الرئاسية، بالحرب الدائرة في قطاع غزة، قد يؤدي حتمًا إلى تكريس مبدأ دائم لربط الشؤون اللبنانية الداخلية بأزمات الخارج.
وفي رأي أكثر من مرجع سياسي أن موقف “حزب الله” الرافض مبدئيًا مناقشة أي أمر داخلي قبل جلاء صورة ما يحصل في غزة، قادر على تعطيل أي مسعى خارجي لتحريك أزمات الداخل طالما أن ما يتمّ طرحه لا يأخذ في الاعتبار مآل الأزمة الغزاوية. فكما عطّل بالأمس، وعلى مدى اثنتي عشرة جلسة انتخابية افتراضية، وصول أي رئيس لا يحمي خاصرة “المقاومة”، ولا يضمن حصولها على الحدّ الأقصى من الدعم الرسمي، سواء عبر البيانات الوزارية، أو عبر المواقف التي سوف يتخذها “الرئيس المقاوم المفترض” في اتصالاته ولقاءاته وطلاته من على المنابر الدولية تمامًا كما كان يفعل الرئيسان أميل لحود وميشال عون، اللذان أمنّا شرعية رسمية لسلاح “المقاومة”، قادر اليوم على تعطيل أي مسعى خارجي لا يحسب أي حساب لما تقوم به “المقاومة الإسلامية” في الجنوب وما تقدّمه من تضحيات التي تضعها أوساط معارضة في خانة الاستثمار السياسي تحت عنوان “مساندة مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة”، وهو لا يعدو كونه شماعة لعناوين أخرى ولمشاريع مستقبلية لا يمكن إلا وضعها في خانات ما يُطبخ للمنطقة، وما يُحضّر لها من خرائط جديدة، وفق ما تراه أوساط معارضة.
فبين السباق الحاصل بين توسع الحرب والجهود الديبلوماسية الدولية الهادفة إلى تلافيها، ثمة من يرى أن أي دفع خارجي نحو تقديم أولوية انتخاب رئيس للجمهورية على ما عداها من أولويات يبدو في الظروف الراهنة غير محقق، على رغم الجهود الديبلوماسية، وبدفع فرنسي في الكواليس، نحو تحريك اللجنة الخماسية واعادة استئناف المبعوث الرئاسي للرئيس إيمانويل ماكرون الوزير السابق جان إيف لودريان تحركه من ضمن هذه اللجنة التي لا تزال محركاتها تعمل بدفع رباعي أميركي، فإن هذه الحركة المستجدة لن تخرج عن الإطار الذي وضعته اللجنة في اجتماعها الأخير في الدوحة، حيث تم التوافق في ما بين أعضائها على المواصفات المطلوب توافرها في الرئيس المقبل، على أن يكون العمل الآن على إسقاط هذه المواصفات على مرشح يُصنّف في خانة الخيار الثالث، على أن تصل في اجتماعها المقبل إلى الاقتناع بضرورة التفاهم بالإجماع على الآليّة التي تتيح إنجاز الاستحقاق الرئاسي، عبر تجاوز مسألة المواصفات التي تم أساساً التوافق عليها للدخول في مرحلة إسقاط أسماء، من دون أن يعني ذلك حصر الأمر بمرشح واحد وإنما حصره بخيار ثالث ينضم إلى الخيارين القائمين، على أن يلحظ هذا الخيار مجموعة محدودة من الأسماء المقترحة التي يمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً بين القوى السياسية اللبنانية. إلاّ أن بين هذه التوقعات أو التمنيات وبين الواقع بونًا شاسعًا، إذ من المستبعد أن يوضع الملف الرئاسي على نار حامية، لأنه لا يزال من المبكر فتح الملف الرئاسي قبل أن تتضح الصورة في الجنوب، واستطراداً في غزة.