في منطقة الشرق الأوسط، من الممكن أن نقول إننا اعتدنا على الحروب وويلاتها.. أسلحةٌ فتّاكة، تقتل، وتحرق، وتغتال، انتشرت بين الفصائل والمجموعات.. ولكن كيف لو وقعت هذه الأسلحة بأيدي عدوّ لا يعرف معنى الرحمة أو الشفقة.. وكيف لو كانت هذه الأسلحة مستخرجة من رحم العلم، الذي من المفترض أن يكون متواجدًا لخدمة البشرية، بدل القضاء عليها..
هذا هو الفوسفور.. السلاح الفتاك، المحرّم دوليًا، الذي غزا الجنوب، على طول الـ100 كلم، تاركًا بصمته على أشجارٍ معمّرة، متسللاً إلى أحراج الجنوب، وحارقًا أنفاس الحيوانات، ليبيد مزارع عن بكرة أبيها.
فمنذ إعلان بدء الحرب على الجبهة الجنوبية، لم يوفّر العدو الإسرائيلي يومًا واحدًا، إلا وبعث السموم عبر سلاح الفوسفور، الذي انقلب بسواده على حياة الجنوبيين، بدءًا من محاصيلهم، وصولاً إلى مزارعهم، وانتهاءً بصحتهم.الغطاء النباتي المدمّرإلى حدّ اليوم، لا توجدُ إحصاءات دقيقة حول حجم الخسائر التي لحقت بالغطاء النباتي بسبب قنابل الفوسفور، إذ إن اشتعال الجبهة الجنوبية المتواصل يمنع المختصين من الوصول إلى أماكن الجريمة، للمباشرة بالإحصاءات الرسمية.”لبنان 24″ تواصل مع رئيس تجمع المزارعين في الجنوب محمد الحسيني، الذي أشار إلى أن القذائف الفوسفورية قد دمّرت مساحة شاسعة من الغطاء النباتي في الجنوب، وتسببت بأضرارٍ جسيمة لا تُحمد عقباها، حيث تم القضاء على عدد كبير من الأشجار، فضلا عن المواسم الزراعية التي لم يتبق منها شيء.يتخوف الحسيني من حجم الأضرار المترافقه مع هذه القنابل، إذ يشير بأنّ أوّل خطر يتهدّد الجنوب، والغطاء النباتي، هو الإشتعال السريع والنيران الناتجة عن عملية القصف بالفوسفوري، ما يعني امتداد الحرائق داخل الغابات، ومحاصيل الزيتون المعمرة، وبساتين الفاكهة، إذ تعدّ الحرائق من أخطر الآثار المباشرة لهذه القنابل، علمًا بأن قنابل الفوسفور تعرّف بأنّها مادة صلبة شمعية، مصنوعة من صخور الفوسفات. تتفاعل سريعاً مع الأوكسجين وتشتعل بسهولة، وهذا ما يفسّر مشاهد الحرائق الكبيرة، التي كانت تُرصد في الأحراج الجنوبية، والتي كان البعض منها يمتد لأيام، قبل أن تتم عملية إخماده بعد جهدٍ كبير تحت القصف والتهديد الإسرائيلي الدائم.من ناحية ثانية، لا يخفي الحسيني حجم التأثير غير المباشر المتمثل بدخان القنابل، الذي ينتشر ضمن بقعة لا يستهان بها في مكان سقوطها، والذي من شأنه أن يؤدي إلى يباس الأشجار، نسبة إلى المكونات الكيميائية التي يحملها.وبأرقامٍ غير رسمية حصل عليها “لبنان 24″، فإنّ نسبة الأشجار التي تعرضت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أضرار، تتراوح بين 400 إلى 500 ألف شجرة. وتؤكّد المصادر أن هذه الارقام تتزايد بشكل يومي، خاصةً وأن العدو يطلق القنابل الفوسفورية بشكل شبه يومي، علمًا أن نطاق الإستهداف بهذا النوع من القنابل يتوسع، إذ يشير مصدر أمني لـ”لبنان 24” إلى أن إسرائيل تهدف إلى إفتعال الحرائق بالفوسفور لأجل القضاء على الغطاء النباتي الذي قد يستفيد منه حزب الله لناحية التمويه خلال عملية إطلاق الصواريخ على المواقع الإسرائيلية الحدودية.وكما على النبات كذلك على الجنوبيين، الذين يعانون بشكل مباشر من آثار هذه القنابل.من هنا يرى عضو قيادة الدفاع المدني في “جمعية الرسالة للاسعاف الصحي” حسن فرحات، بأن الفوسفور يشكّل خطرًا على المدنيين بشكل مباشر، خاصةً وأن العدو لم يوفّر جهدًا لناحية إلقاء هذا النوع من القذائف بين بيوت الجنوبيين.ويؤكّد فرحات خلال حديث مع “لبنان 24” أن الفوسفور طال المدنيين في الجنوب، إن كان عبر الإستنشاق، بسبب الدخان الذي قد ينجم عنه، أو من خلال الحبيبات والشظايا التي تصيب المدنيين عند انشطار القنبلة، حيث وصل عدد الحالات المصابة، والتي تم علاجها إلى حدود الخمسين حالة.
بالتوازي، يشير فرحات إلى أن المكان الذي يتعرّض للقصف بالفوسفور يصبح مكانًا غير صالح، خاصةً عندما تلامس القنبلة التربة، نسبةً إلى الكيميائيات التي تتفاعل مع الهواء، والتي من شأنها أن تسبب الحريق، هذا عدا عن خطورة انتشار الحبيبات، والتي قد تصل إلى 300 متر من مكان انفجار القنبلة، بالإضافة إلى الغبار الذي بطبيعة الحال سينتشر ضمن مجال أكبر، بالإعتماد على سرعة الرياح.ويشدّد فرحات على أن هذه الآثار من شأنها أولاً أن تصيب الجهاز التنفسي، أو أن تتسب بحروق بالجلد إذ ما اخترقت الحبيبات جسم الإنسان، أو من الممكن إصابة الجهاز الهضمي، خاصةً في حال تناول الإنسان لحوم حيوانات تنشقت غاز الفوسفور، أو في حال تلوثت المياه.توازيًا كانت قد نبّهت الجمعيات البيئية على ضرورة عدم التوجه نحو الأشجار أو المحاصيل التي يستهدفها العدو، كما وعدم الإحتكاك بأيّ من الحيوانات أو مصادر المياه القريبة من مكان سقوط هذه القنابل.على مقلب آخر، أوعز وزير الخارجية والمغتربين عبدالله بو حبيب إلى بعثة لبنان في الأمم المتحدة تقديم شكوى جديدة إلى مجلس الأمن الدولي لإدانة استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في اعتداءاتها المتكررة ضد لبنان، وقيامها عمدًا بإحراق الأحراج والغابات اللبنانية، إلا أنّ أداة الإجرام الإسرائيلية كثّفت من هجاماتها، ضاربة القرارت الرسمية بعرض الحائط.
وزارة البيئة
وأظهرت نتائج فحص أجرتها وزارة البيئة على عيّنات أُخذت من تربة ثمانية مواقع جنوبية قصفها العدو الإسرائيلي بالقذائف الفوسفورية «وجود نسب كبيرة من الفوسفور في التربة وصلت إلى أربعين ألف جزيئية في المليون، مقارنة مع النسبة الطبيعية التي تبلغ حوالي 100 جزيئية في المليون، أي بزيادة 400 ضعف»، وهو ما يؤثّر في سلامة الزراعة في تلك التربة الملوّثة التي تحتاج إلى سنوات طويلة لتنظيفها.الدراسة أجراها فريق خبراء مشترك من الوزارة ومن مختبر البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية. وقال وزير البيئة ناصر ياسين إن نتائج الفحوصات التي ستعمّمها الوزارة اليوم «ستُضم إلى ملف الشكوى الذي تجهّزها الدولة اللبنانية ضد إسرائيل أمام مجلس الأمن بتهمة استخدام القذائف الفوسفورية المحرّمة دولياً».
وكانت وزارتا البيئة والزراعة نشرتا في الشهر الأول للعدوان، مسحاً أولياً لبلدات قضاء صور الحدودية من الناقورة إلى مروحين وشيحين والبستان، والتي استهدفتها القذائف الفوسفورية في الفترة الممتدّة من الأسبوع الثاني للعدوان حتى مطلع تشرين الثاني الماضي. وأظهر المسح أن حوالي 460 هكتاراً من أشجار الزيتون والصنوبر والبلوط والأشجار والأعشاب البرية، قد احترقت. في حين أحصت وزارة الزراعة احتراق حوالي 40 ألف شجرة زيتون. علماً أن العدو في الأسابيع اللاحقة استخدم القذائف الفوسفورية في كل البلدات الحدودية من يارون وعيترون إلى ميس الجبل وكفركلا وحولا والخيام وسهلَي الوزاني والخيام.
ويبقى السؤال: إلى متى ستستمر عملية استباحة الأراضي الجنوبية بهذا الشكل؟ وإلى متى سيتم السكوت عن المجازر البيئية التي تقضي على الغطاء النباتي، وتتسبب توازيًا بتلوث خطير نسبة إلى الكيميائيات التي تنتشر.. خاصة وأنّه بالأمس القريب، كان العالم مجتمعًا ليعالج قضية تغير المناخ بسبب التلوث الذي يفتك بالعالم…