التقرير الذي نشرتهُ صحيفة “يديعوت أحرونوت”، الأربعاء، وذكرت فيه أنّ الجيش الإسرائيليّ يقلص عدد قواته عند حدود لبنان في ظل المواجهات مع “حزب الله”، يحمل مؤشرات “غير عادية” يجب الوقوف عندها.
الجيش الإسرائيلي رفض تأكيد أو نفي المعلومة المذكورة في تقرير الصحيفة، متذرعاً بأنه لن يكشف عن أي أمرٍ يخص تمركزات الجنود الإسرائيليين كي لا يقدم معلومة للعدو، أي “حزب الله”. ولكن، في المقابل، كانت هناك تصريحات لقادة عسكريين إسرائيليين تؤكد ما أقدم عليه الجيش عند الحدود مع لبنان، وبالتالي “تثبيت” عملية التقليص التي حصلت.. فما الدلالات وراء ذلك؟ وهل تعني هذه الخطوة “إنتهاء تهديد الحرب”؟
للوهلة الأولى، من يقرأ تفاصيل خطوة التقليص سيجدُ أنها ارتبطت بأمرين أساسيين: الأول وهو سحب القوات باتجاه مناطق إسرائيلية داخلية، وهو أمر يتعارض مع إعلان تل أبيب قبل فترة قصيرة أنها تسعى لتعزيز عديدها عند الحدود مع لبنان. أما الأمر الثاني ويرتبط بتكريس وجود لـ”جماعات مسلحة” رديفة للجيش الإسرائيلي بإمكانها أن تُشكل عاملاً مساعداً لمواجهة أي هجوم قد يشنه “حزب الله” ضد الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أول دلالة من هذه المشهدية هي أن إسرائيل لجأت فعلاً إلى “إستنساخ” نظرية المقاومة وطبقتها على أرض الواقع عند الحدود مع لبنان. في حال نظرنا في عُمق المسألة، سيتبين أن الجماعات الأمنية التي ستتولى مهمة الدفاع عن المستوطنات لن تكون منضوية في إطار الجيش بقدر ما إنها ستكون مساندة له. وعليه، فإنّ إسرائيل تكون قد نقلت فكرة “المقاومة” إلى مستوطناتها ولكن هذه المرة ضد “حزب الله” وبتوقيع إسرائيليّ.
الدلالة الثانية ترتبطُ بإقدام إسرائيل على الإبتعاد عسكرياً عن لبنان، علماً أن هدفها الأساسي هو إبعاد “حزب الله” عن الحدود. هنا، ما حصل هو العكس، فالحزب ما زال موجوداً عند الشريط بينما الجيش الإسرائيلي يبتعد إلى الداخل.
الدلالة الثالثة وراء الخطوة الإسرائيلية تظهر أن هناك تناقضات كبيرة في الميدان الإسرائيلي، كما أنها تكشف عن “فقاعة الشعارات” التي ترفعها تل أبيب من دون تطبيقها عملياً على أرض الواقع. في بادئ الأمر، ما قيلَ خلال الآونة الأخيرة أنّ إسرائيل أرادت نقل قوات من غزة إلى لبنان بهدف الحشد لمعركة كبرى هناك. بعد ذلك، جاء الإعلان عن خوض مناورات قتالية قبل أن يتم الكشف عن تقليص عدد القوات. التناقضُ هنا كبير ويطرح تساؤلات جمّة أبرزها: ما الهدف من خطوة تخفيض القوات الإسرائيلية؟ هل كان الإعلان عن حشد قوات باتجاه لبنان والمناورات القتالية بمثابة حملة دعائية فقط؟ وهل انتفت الحرب فعلاً حالياً؟
هنا، تأتي الدلالة الثالثة الأهم والتي يمكن أن تحلل التساؤل الأخير المذكور، المتعلق بالحرب.بشكلٍ أو بآخر، في حال “صدق” سيناريو التقليص، عندها يمكن القول إن إسرائيل باتت تنزل عن الشجرة التي صعدت إليها وهدّدت من على رأسها “حزب الله” بشن حرب ضده. لو كان باستطاعة إسرائيل حقاً إفتعال عملية عسكرية ضد لبنان، لما كانت بادرت إلى خفض عديدها. كذلك، لو كانت هناك جديّة لإنجاز إجتياح بري، لما كانت تل أبيب مضت باتجاه إبعاد جنودها عند الحدود.ما حصل يمكن تفسيره بأن إسرائيل أرادت إيصال رسالة للحزب تحت عنوان “التراجع عن التصعيد” والإنكفاء إلى الداخل، وبالتالي تخفيض نسبة التوتر وإمكانية إندلاع حرب. الخطوة هذه، وفي حال اقترنت مع معلومات مؤكدة عن إنكفاء إسرائيلي حقيقي، قد تدفع الحزب حقاً لعدم الإنجرار نحو هجمات كبيرة أو باتجاه سيناريو الإقتحامات.
كذلك، فإن النقطة التي لا يُمكن التغاضي عنها ترتبط بهدف إسرائيليّ يقضي بـ”تحييد الجيش” عن أي ضربات مستقبلية من “حزب الله”. بمعنى آخر، في حال قلّصت تل أبيب انتشار قواتها النظامية عند الحدود مع لبنان، عندها ستساهم في تخفيض التواجد العلني المسلح، الأمر الذي قد يُصعب على الحزب مسألة تحقيق إستهدافات مباشرة في صفوف جنود العدو. فهؤلاء يجري رصدهم بشكل دائم كما أنه لدى الحزب معلومات كثيرة عن أماكنهم، والأدلة على ذلك موجودة في بيانات استهدافهم. وعليه، فإنه في حالة الإنسحاب، فإن إسرائيل تسعى لإحداث إرباك عند الحزب من جهة، وإلى تقليص فاتورة الخسائر البشرية في صفوف جيشها من جهة أخرى. ولهذا، يمكن القول إن ما يحصل هو عودة إلى “ستاتيكو” المواجهة الذي كان قائماً قبل 7 تشرين الأول الماضي. هنا، يبرز سعي من إسرائيل لوقف حرب الإستنزاف ضدها واستخدام جماعات أمنية قد تكون مجهولة من قبل الحزب لأن ذلك سيشكلُ ضغطاً متزايداً عليه في الميدان.
في خلاصة القول، يتبين أن إسرائيل تلعب على حبال مختلفة، فمن جهة تُصعد كلامياً ومن جهة أخرى “تخفض رأسها” في الميدان تحسباً لمواجهة.. والسؤال الأبرز الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن تكون كل هذه الوقائع الجديدة ورقة جديدة في إطار المفاوضات؟ كل الأمور واردة ولننتظر ما سيفعله الأميركيون عبر وسيطهم آموس هوكشتاين الذي سيزور المنطقة الاسبوع المقبل وقد تشمل جولته بيروت.