عندما كان لبنان يفاوض إسرائيل بطريقة غير مباشرة، وبإشراف كلي من قِبل الأميركيين عبر آموس هوكشتاين، كان “حزب الله” يقول في العلن أنه وراء الدولة في أي قرار قد تتخذه في الوقت الذي كان يعلم فيه الجميع، ومن بينهم الأميركيون، أنه لو لم تكن “حارة حريك” موافقة على هذه المفاوضات لما كان قرار ترسيم الحدود البحرية قد أبصر النور، خصوصًا أن اللواء عباس إبراهيم، الذي كان الوسيط المباشر بين “حزب الله” وهوكشتاين، كان على اطلاع مستمر على أدق تفاصيل مفاوضات الناقورة، التي شابها في مراحلها الأخيرة بعض الغموض، الذي لا يزال من دون تفسير، خصوصًا أن لا أحد، أقّله ظاهريًا، استطاع أن يستوعب الموقف الذي اتخذته القيادة السياسية في “الحزب” لجهة تسهيل التوصل إلى مثل هكذا قرار على مستوى لبنان الرسمي، وهي التي ضغطت عبر المسيّرات، التي اكتفت بالتحليق فوق حقل “كاريش”، لكي تسهم في أن ينهي الرئيس السابق ميشال عون عهده بإنجاز وصفه “العونيون” بأنه “تاريخي”، وشارك فيه كل أركان الدولة بدءًا من الرئيسين نجيب ميقاتي ونبيه بري، اللذين واكبا تفاصيل المفاوضات، التي وضعت لبنان بفضل هذا الاتفاق على خارطة الدول النفطية في المنطقة، وإن لم “تصل فرحته إلى قرعته” بعد.
أمّا ما كان سائدًا في المفاوضات البحرية غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل، وبوساطة أميركية، غير متوافرة له الظروف ذاتها، التي هيأت المناخ الملائم للترسيم البحري، إذ أنه في تثبيت ترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل بما فيها مزارع شبعا وكفرشوبا المحتلة لن يقف “حزب الله” خلف الدولة في أي مفاوضات مقبلة بعد عودة هوكشتاين إلى المنطقة للمباشرة في نقل الرسائل المتبادلة بين بيروت وتل أبيب. وهذا ما يعرفه الجميع، وبالأخص الأميركيون، الذين تبلغوا أكثر من مؤشر من قِبل “حارة حريك”، خصوصًا أن آخر كلام نُقل إليهم لم يكن مشجعًا على المضي قدمًا في ما اعتقده هوكشتاين أمرًا سهلًا، خصوصًا عندما فسّر له ناقلو الرسائل ما يعني بالضبط تعبير “خيطوا بغير هالمسّلة”.
فأي حديث عن تثبيت الترسيم البرّي في هذا الوقت، الذي تتعرّض له غزة لأبشع أنواع الحروب، وكذلك الجنوب المرتبط مصير الحرب فيه بالتطورات الغزاوية غير وارد، أقّله الآن، بالنسبة إلى “حزب الله”، الذي يرفض ما سبق أن طرحه الموفد الأميركي بالنسبة إلى سحب عناصره من مواقعهم المتقدمة على طول “الخطّ الأزرق” إلى شمال نهر الليطاني تمهيدًا لفرض تطبيق القرار 1701 على الجانب الإسرائيلي.
ووفق بعض المصادر غير الرسمية فإن أي حديث عن مفاوضات تثبيت الترسيم البرّي بما فيها المزارع المحتلة في شبعا وكفرشوبا والجزء المحتل من بلدة الغجر لن يكون مجديًا ما لم توقف إسرائيل حربها على غزة، وبالتالي وربطًا على القرى الجنوبية. أمّا إذا توقفت “حرب الإبادة” ونجحت الوساطات في تثبيت هدنة غزاوية طويلة الأمد فإنه سيكون لكل حادث حديث، من دون أن يعني ذلك أن “حزب الله” سيوافق على كل ما يمكن أن يُقدّم إليه من اقتراحات أميركية، خصوصًا أنه يرفض منطق تحويل المنطقة الجنوبية، والتي هي بحدود السبعة كيلومترات عمقًا، منطقة ضامنة لأمن المستوطنات الشمالية من الجهة الإسرائيلية، وبالتالي رفض أي تسوية سياسية كتلك التي سبقت الترسيم البحري، وإن كانت لا تزال تلك الخطوط العامة لتلك “التسوية البحرية” سرًّا من “اسرار الالهة”.
إلاّ أن الأهم من كل ذلك أن اللبنانيين مختلفون على كل شيء تقريبًا، وهم يحتاجون اليوم أكثر من أي يوم مضى إلى أن يجلسوا معًا إلى طاولة مصارحة عميقة تمهيدًا لمصالحة حقيقية أو إلى الطلاق، وهو أبغض الحلال.