يبقى الأمر شبه الوحيد الذي يتفق عليه اللبنانيون، ولكن بنسب متفاوتة، هو أن الجيش خشبة خلاص، وهو وحده المؤهّل شرعًا للحفاظ على السيادة والكرامة، وهو الوحيد الضامن لوحدة الشعب والأرض والمؤسسات، وهو الوحيد الذي يجب أن يقف خلفه الجميع، لأنه الملاذ الشرعي الوحيد، وليس كما يُقال، أنه غير قادر على حماية الحدود من الأطماع الإسرائيلية، لأنه يفتقد إلى العديد والعتاد الكافيين للمواجهة. وينسى هؤلاء ما فعله هذا الجيش في معركة المالكية يوم كان مغطّىً سياسيًا وبإرادة لبنانية جامعة، ولم يكن أفراده يملكون الصواريخ ولا الدبابات ولا الطائرات، بل استطاعوا أن يواجهوا بعزم وقوة بـقدرات متواضعة من كان يُظن بأنه أقوى جيوش المنطقة من حيث الإمكانات والمعدّات الحربية المتطورة.
ولمن خانتهم الذاكرة أو أولئك الذين لا يزالون يشكّكون بقدرات الجيش نورد ما جرى في تلك الحقبة من التاريخ. فبعد احتلال صفد وإزاء خشية القيادة الإسرائيلية من أي تقدم للجيش اللبناني في إصبع الجليل عن طريق المالكية، قامت بتكليف قيادة العملية “يفتاح” باستباق القوى اللبنانية والسيطرة على المالكية وقادش وقلعة شرطة النبي يوشع، مع نسف كل الجسور الواقعة عند مداخل فلسطين الشمالية حتى الموجودة في عمق الأراضي اللبنانية والسورية لعرقلة تقدم أي قوات عربية في ذلك الاتجاه. ومن ثم أصدر إيغال آلون قائد اللواء “يفتاح” أوامره إلى دان لانر قائد الكتيبة الأولى “بالماخ” بالتقدم واحتلال المالكية والمرتفعات المحيطة بها لسدّ الطريق في وجه القوى اللبنانية من هذا الاتجاه، مع عزل قلعة شرطة النبي يوشع. وبعد سير منهك طوال فقدت فيه الكتيبة اتجاهها وصلت القوة قرية قادش فاحتلتها كما احتلت المالكية.
وقبل أن تعزز الكتيبة الإسرائيلية أوضاعها قامت القوى اللبنانية بقيادة العميد فؤاد شهاب بهجوم مضاد ناجح أجبر تلك الكتيبة على الانسحاب من المالكية وقادش إلى المرتفعات المجاورة بعدما بلغت خسائرها أكثر من 120 قتيلاً وجريحاً.
وإزاء انسحاب كتيبة “البالماخ” الأولى من المالكية قلصت قيادة العملية “يفتاح” مهام التخريب المخططة وكلفت إحدى سرايا التخريب باحتلال قلعة النبي يوشع جنوب المالكية للاستفادة من وجود كتيبة “البالماخ” الأولى في المرتفعات المجاورة. وقد تمكنت السرية في احتلال الحصن بعدما مهد سرب الجليل لذلك الهجوم بإلقاء القنابل الحارقة على القلعة.
وقد شجع توقف اللبنانيين عن التقدم بعد احتلالهم للمالكية وقادش قيادة اللواء “يفتاح” على القيام بمحاولة جديدة لاسترداد المالكية. وقد تلخصت فكرة الهجوم في القيام بهجوم مخادع على قادش والمالكية من الجنوب، بينما تقوم القوة الرئيسية بالالتفاف والهجوم على المالكية من الخلف عبر الأراضي اللبنانية. وتحركت القوة الرئيسية من دون أضواء في عرباتها المدرعة من المنارة عبر الحدود اللبنانية، ثم انعطفت جنوباً نحو المالكية في الوقت الذي كانت فيه قوات الهجوم المخادع تهاجم قادش والمالكية من الأمام، وقبل أن يصل رتل القوة الإسرائيلية الرئيسية إلى المالكية، اضُطر للاشتباك مع وحدة لبنانية صغيرة كانت تتقدم لدعم القوة اللبنانية المدافعة عن تلك البلدة.وقد نبهت أصوات الطلقات خلال هذا الاشتباك القوة اللبنانية في المالكية، إلا أنهم قبل أن يتمكنوا من تنظيم أنفسهم للدفاع ضد الهجوم الإسرائيلي المفاجئ من الخلف، كان الإسرائيليون يهاجمون مؤخرتهم. وبعد معركة قصيرة سقطت البلدة في أيدي القوات الإسرائيلية، كما اضطرت القوات اللبنانية إلى الانسحاب من قادش أيضاً إلى ما وراء حدودها.وعلى الفور أخذ الجيش اللبناني يستعد لاستعادة المالكية، وكُلفت كتيبة مشاة من فوج القناصة الثالث اللبناني بالمهمة ودُعمت بست دبابات “رينو” وأربع عربات مدرعة وجماعة مهندسين، وقد تلخصت فكرة الهجوم في الانقضاض على قوات اللواء “عوديد” ـ المشكل حديثاً والتي حلت محل اللواء “يفتاح” في المالكية ـ من الشرق والغرب معاً بواسطة سرايا المشاة في الوقت الذي قامت فيه المدرعات بقصف المواقع الإسرائيلية شمال المالكية وتقديم المعونة بالنيران لسرايا المشاة المهاجمة. وعلى الفور بدأت قوات المشاة اللبنانية باقتحام مواقع اللواء “عوديد” الذي فوجئ بالهجوم. وهكذا استطاع الجيش فرض سيطرته الكاملة وبقدرات متواضعة جدًّا.اقرأوا التاريخ واعتبروا.