مَن يعرف كيف يتصرّف جيش العدو في الحروب، ومَن يراقب عن كثب وبدقة ما يجري في الجنوب منذ الثامن من تشرين الأول حتى اليوم لا يستغرب كثيرًا قيام إسرائيل بغارتين على بلدة الغازية، التي تبعد نحو ستين كيلومترًا عن خطوط المواجهة على طول “الخطّ الأزرق”، مدّعية أن المستودعات المستهدفة تحتوي على سلاح لـ “حزب الله”، بينما هي في حقيقة الأمر مستودعات خاصة. وهذا يثبت عدم فعالية ما يصل إلى تل أبيب من معلومات مخابراتية مغلوطة، أو ما يتجمّع لديها من معطيات غير دقيقة وغير صحيحة عن أمكنة تخزين “الحزب” لسلاحه الثقيل والمتوسط.
الخبراء الميدانيون لم يستغربوا على الاطلاق ما تقوم به إسرائيل عبر توسيع رقعة غاراتها، التي تستهدف مناطق بعيدة عن خطوط التماس التقليدية، خصوصًا أنهم يعرفون تمام المعرفة ما ترمي إليه قيادة الحرب الإسرائيلية من وراء استهدافها مواقع محدّدة في العمق الجنوبي، وذلك اعتقادًا منها أنها بذلك تستطيع أن ترفع من المنسوب الاستفزازي لـ “حزب الله”، الذي سيجد نفسه في نهاية المطاف مجبرًا على الردّ بما يتناسب وحجم الاعتداءات الإسرائيلية، أي قصف العمق الإسرائيلي، خصوصًا أن لديه صواريخ قادرة على الوصول إل ايلات على حدّ ما كشفه أمينه العام السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير.
وفي حال وقوع “حزب الله” في “فخ” جرّه إلى الردّ في العمق فإن هذا يعني بالمفهوم الإسرائيلي الثلاثي الأبعاد الدخول في حرب واسعة وشاملة تسعى إليها إسرائيل من ضمن مخطّطها الرئيسي، ومنذ اليوم الأول لبدء حربها على قطاع غزة، خصوصًا أن ما ترتكبه من مجازر في حق “الغزاويين” لا يلقى اعتراضًا أو تنديدًا أو استنكارًا دوليًا بما يتناسب مع حجم هذا العدوان وضخامته وجسامته. وتتوهم إسرائيل بأنها ستتصرّف في لبنان كما تصرّفت في غزة من دون أن يقول لها أحد من دول العالم “ما أحلى الكحل بعينيك”. ولذلك فهي تقوم بكل ما تراه مناسبًا لما يمكن أن يدفع بـ “حزب الله” إلى الانسياق تلقائيًا وعفويًا إلى حرب لا يريدها منذ البداية، وهو يحاول بكل ما لديه من خبرة في التعامل مع الوقائع الميدانية من ضمن ما يُعرف بـ قواعد الاشتباك” أن يتجنّب الوقوع في “الفخ الإسرائيلي”، لأنه أبلغ الجميع أنه، وإن كان من خلال فتحه للجبهة الجنوبية اسنادًا لغزة وللتخفيف من الضغط عليها، لا يريد توريط اللبنانيين بحرب ستكون نتائجها كارثية حتمًا، ولكنه في الوقت نفسه أفهم الجميع بأنه لن يتلكأ في الدفاع عن الجنوب وعن كل لبنان إذا فُرضت عليه الحرب الواسعة والشاملة.
فكما أن ايران تعاملت مع الضربات الإسرائيلية لبعض مواقعها في سوريا، وكذلك مع الضربات الأميركية ردّا على عملية الأردن، وبأعصاب باردة ومن خلال التعامل مع الأحداث على طريقة “الردّ في الوقت والزمان المناسبين”، فإن “حزب الله” لن يخرج عن هذا المفهوم في إدارة المعركة، وهو لن ينجرّ إليها وفق “التوقيت الإسرائيلي”، لأنه كما تؤكد أوساطه حريص على “المصالح اللبنانية” بقدر حرصه على سلامة المواطنين الذين يتعرّضون يوميًا لكل أنواع التهديد والترهيب، وهو لا يزال يزن الأمور بميزان التوفيق بين “المصالح اللبنانية” والردّ المناسب على كل اعتداء يقوم به العدو، لكنه لا يزال يمسك بأعصابه، على رغم نداءات بيئته له بـ “حسم المعركة وتلقين العدو درسًا لن ينساه”.
فما قامت به إسرائيل أمس الأول باستهدافها منطقة لبنانية خارجة، عرفًا، عن حدود “قواعد الاشتباك” لن تكون المرّة الأخيرة، بحسب ما يؤكده الخبراء العسكريون، الذين كانت لهم في الماضي مع إسرائيل “صولات وجولات” من اختبار للنوايا في الميدان وفي الاعلام. وهي ستعيد الكرّة مرّة واثنتين وأكثر بحجّة أنها تستهدف مخازن أسلحة لـ “حزب الله”. ولكن يبقى السؤال عن كيفية تعاطي “الحزب” مع هذا التمادي العدائي، وكيف سيرّد وأين ومتى؟