قد لا يملك سيد بكركي البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي، كما غيره من القادة الروحيين، مسلمين ومسيحيين، سوى الكلمة ليعبّروا بها عمّا يعانيه الموطن في معيشته اليومية، وإن “كان لا رأي لمن لا يُطاع”. فالكلمة التي كانت تقال في غابر الأزمان كانت تزلزل الأرض من تحت أقدام جميع الذين سمحوا لأنفسهم باستباحة الحجر والبشر، وكان لكلمة الكبار فعلها، وهي كانت أقوى من المدفع. يومها كان الكلام قليلًا، لكنه كان يأتي في مكانه وزمانه المناسبين. ولأنه كان كذلك كان هذا الكلام مسموعًا من قِبل الشعب، إلى حدّ الطاعة فكان لرأي أصحاب الرأي الوقع المزلزل.
ولكن أن يقول سيد بكركي في عظة أحد النازفة إن البلد “آخذ” في الانهيار فإن فيه بعضًا من التبسيط لمعاناة الناس المستنزَفين إلى حدّ التسّول، وإن كانت عزّة نفس الكثيرين لا تسمح لهم بذلك حتى ولو كانوا يشتهون “العضّة بالرغيف”.
البلد يا صاحب الغبطة منهار. وأعتقد هذا ما قصدته عندما قلت إنه “آخذ”. أمّا أن يكون المقصود المعنى الحصري لكلمة “آخذ” فإن الملامة قد تقع على الأشخاص الذين يحوطون غبطته كظّله. والأرجح أنهم لا ينقلون إليه حقيقة ما يعانيه أفراد الشعب، وحقيقة ما يتعرّضون له من “شنططة” لكي يستطيعوا أن يؤّمنوا لعيالهم ما يرّد عنهم لسعات الجوع والبرد في آن.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر تحضرني واقعة حصلت في يوم من أيام الخير الغابرة، على رغم أننا كنا في حرب ضروس، وكنت شاهدًا عليها، إذ استجمع “المعلم” شكرالله، وهو كان يؤدي بعض الخدمات في مركز الحزب، كل قواه الجسدية والعقلية، وقرّر أن يفاتح رئيس الحزب بأمر يتعلق براتبه، الذي لم يعد يكفيه ليعيل عائلته. وبعدما استعرض له ما وصلت إليه أسعار السلع في”السوبرماركات” سأل رئيس الحزب شكرالله عن قيمة راتبه، فأجابه: 100 ليرة. فما كان منه إلا أن سأله وببراءة وعفوية: وهل تصرفها كلها؟ فما كان من شكرالله إلا أن أنسحب تكتيكيًا كما دخل. ومن حينها لم يعد يجسر على مفاتحة أحد بموضوع “الزودة”. وبقي راتبه مئة ليرة فترة طويلة، ولم يكن يكفيه لمصروف عشرة أيام من أصل ثلاثين يومًا.
المقصود من سرد هذه الواقعة ليس للدلالة على أن رئيس الحزب المشار إليه بخيل، بل للتأكيد على أن من لا ينزل إلى السوق ويشتري بنفسه ما يحتاج إليه من مواد وسلع لا يعرف حقيقة الأمر، خصوصًا إذا كان المحيطون بهم لا يطلعونهم عمّا وصلت إليه أوضاع أبناء رعيتهم. وهكذا يعتقدون أن المئة ليرة كافية لإشباع “أفواه الأرانب”.
أما بعد، فهل يُلام سيد بكركي إذا قال إن “البلد آخذ في الانهيار”، وهو كان أول من أعلن من على بوابة قصر بعبدا بعد لقائه الرئيس السابق ميشال عون أن البلد مقبل على الإفلاس في الوقت الذي كان يُقال فيه للشعب إن الليرة بألف خير. وهم بذلك كانوا يحاولون أن يخبئوا نور الشمس بغربال.
فالكلام الذي قاله البطريرك الماروني يومها لم يكن من “عندياته”، وهم لم يكن ليعلنه لو لم يسمعه مباشرة من فم رئيس الجمهورية. ومنذ تلك اللحظة بدأ الانهيار ولم يتوقّف.
ولكي لا يكون حكمنا على ما قيل فيه بعض التجنّي والتحامل نستطرد في تحليل معنى كلام عظة “أحد النازفة” لنقول إن المقصود بهذا الكلام أنه لا يزال في هذه الدولة المنهارة والمفكّكة من يعمل لكي لا نصل إلى الانهيار الشامل والكامل، ويبقى الوضع “آخذًا” في الانهيار، ولكن في المقابل هناك كثيرون لا يريدون لمن يعمل أن يعمل أقّله من أجل التقليل من الأضرار.