ازدادت وتيرة البلاغات ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن أعلنت محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني الماضي، قراراتها الأولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا في إطار الاتفاقية المتعلقة بالإبادة الجماعية لعام 1948.
وفي تطور قانوني غير مسبوق، تمت إحالة رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، وكبار السياسيين الأستراليين، لمحكمة الجنايات الدولية، بسبب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة للتحقيق في ما إذا كانوا قد ساهموا في دعم الاحتلال الإسرائيلي بجرائم الإبادة الجماعية.
هذه الإحالة، قامت بها شركة المحاماة “Birchgrove Legal” بتأييد من 100 محامٍ في سيدني، وهي المرة الأولى التي تتم فيها إحالة زعيم غربي وقادة سياسيين أستراليين في الخدمة رسمياً إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق. بينما قال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الاثنين الماضي، إن المحكمة تحقق بجد في أي جرائم يُزعم ارتكابها في غزة.
توفر اتفاقيات جنيف الأربع – وهي سلسلة المعاهدات الدولية التي تنص على قواعد الحروب الإنسانية – حماية للمدنيين وغير المقاتلين خلال النزاعات المسلحة، وقد وقّعت إسرائيل هذه الاتفاقيات، لكن من دون المصادقة عليها، ولم تُدخل أحكامها ضمن قوانينها الداخلية.
بالنسبة إلى رئيس مؤسسة JUSTICIA والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ المحامي الدكتور بول مرقص، يجب أن تؤدي الانتهاكات المرتكَبة، كاستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية واستخدام القوة بصورة مفرطة والتهجير القسري، إلى التحقيق والمحاكمة وفقاً لأحكام المواد رقم 3 و27 و49 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، والتي ترعى وجوب حماية المدنيين، بالإضافة إلى المادة رقم 18 منها، والتي تحظر استهداف المنشآت الاستشفائية والطبية.
هذا بالإضافة إلى البروتوكول الأول لسنة 1977، وتحديداً المادة رقم 79 منه بعنوان “تدابير حماية الصحفيين”، والتي تنص على موجب حماية الصحافيين، وهو الأمر الذي لم تلتزمه إسرائيل، بل على العكس، فقد قامت باستهدافهم على نحو مباشر. وكذلك الأمر، تندرج قرارات مجلس الأمن في هذا الإطار، كالقرار رقم 1738 بتاريخ 23/12/2006 بعنوان “حماية المدنيين في النزاعات المسلحة”.
وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تكن طرفاً في البروتوكولات العائدة إلى هذه الاتفاقيات لسنة 1977، فإن ذلك لا يسمح لها، بحسب ما يؤكد مرقص لـ”لبنان24″، بالتنصل من موجبها في احترام المعايير الدولية الإنسانية. وفي هذا الإطار، لا بد من تفعيل الآليات القانونية والقضائية لتحميل المسؤولين الإسرائيليين المسؤولية.
يتمتع مجلس الأمن الدولي بسلطة التصدي لتهديدات السلم والأمن الدوليين بموجب المادة رقم 39 من ميثاق الأمم المتحدة، ويمكنه إنشاء محاكم دولية خاصة “Ad hoc” أو الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق والمحاكمة، إلاّ إن ممارسة المجلس لهذه السلطة يخضع، وفق مرقص، للتصويت، أي للإرادة السياسية، وهو ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى استخدام حق النقض الـ”Veto” من جانب الأعضاء الدائمين (الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والصين، وفرنسا، والمملكة المتحدة)، وبالتالي عرقلة صدور قرار واضح ومتين.
ولدى المجلس، كما يقول مرقص، الخياران التاليان:
– الإحالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
– إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بمقتضى أحكام الفصل السابع لمقاضاة المرتكبين.
وبالتالي، تواجه جهود إحالة حرب غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية،بحسب مرقص، تحديات سياسية في مجلس الأمن، إذ يمكن أن يعوق التضارب في المصالح بين الدول الأعضاء، ولا سيما الدائمين منهم، الوصول إلى العدالة. ومع ذلك، فإن مجلس الأمن يظل خياراً ممكناً، بل أساسياً أيضاً لطلب المساءلة إذا توافقت الإرادة السياسية. ويبقى لمجلس الأمن الدولي خيار اللجوء إلى إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة أو الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بمقتضى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي يحتاج إلى توافق الإرادة السياسة، غير المتوافرة حالياً.
لقد أنشأ نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة دولية دائمة لمحاكمة الأفراد بتهم الجرائم الأكثر خطورة ذات الصلة دولياً؛ جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة والعدوان، من دون إعفاء الرؤساء وقادة الدول من الملاحقة والمحاكمة والمحاسبة، وهو ما يعني أنهم لا يتمتعون بأي حصانة أمامها.وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، كما يؤكد مرقص، أن تضع يدها على القضية إذا أحالت دولة طرف الملف إلى المدعي العام، أو إذا كان المدعي العام قد بدأ على نحو تلقائي بمباشرة تحقيق في القضية، وهو الأمر المعوَّل عليه راهناً.
فقد نصت المادة رقم 13 من نظام روما الأساسي على ما يلي: للمحكمة أن تمارس اختصاصها في ما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة 5 وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:
(أ) إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛
(ب) إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛
(ج) إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق في ما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادة 15
وفي 5/2/2021، قضت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بالأغلبية بما يلي:
(1) انضمت فلسطين بشكل صحيح إلى نظام روما الأساسي وأصبحت بالتالي دولة طرفاً فيه؛ و(2) يمتد الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية إلى “الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، أي غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.“
وقد جاء هذا القرار البالغ الأهمية بناء على طلب من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للحصول على تأكيد الاختصاص الإقليمي للمحكمة، بعد أن كانت المدعية العامة قد خلصت في وقت سابق إلى وجود أساس معقول للاعتقاد بأن جرائم حرب قد ارتكبت أو يجري ارتكابها في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة
وتكمن أهمية المحكمة الجنائية الدائمة المنشأة بموجب نظام روما لعام 1992، وفق مرقص، بأنها سبق أن أعطت بوادر أمل بتحقيق حد معين من العدالة الجنائية وكذلك محاكم جنائية خاصة أنشأت،كما بالنسبة إلى يوغسلافيا السابقة وراوندا وسيراليون وغيرها، حيث برزت ورغم الملاحظات الكثيرة، إدانات لقادة أمنيين وعسكريين وسياسيين اقتيدوا إلى المحكمة وأدينوا وحُكموا لسنين طويلة. أما الفرق بين هذه المحكمة ومحكمة العدل الدولية، هو أن هذه الأخيرة تحاكم الدول فقط وليس الأفراد ولا تصدر مذكرات كما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
لم ينضم لبنان إلى هذه المحكمة وكذلك إسرائيل وهذا ما يمنعه، كما يقول مرقص من مقاضاة إسرائيل أمامها. أما السبب وراء عدم انضمامه، فهو، بحسب مرقص، غير واضح وربما يكون سببه خوف بعض القادة السياسيين من استغلال هذه المحكمة للمحاكمة على جرائم ارتكبت خلال ما سمي بالحرب الأهلية على اعتبار أن الجرائم التي تختص بها هذه المحكمة وهي الابادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان، لا تسقط بمرور الزمن. وبالتالي، فإن لبنان يكتفي حاضرا، بسبب هذه العوائق القانونية التي تحول دون اللجوء إلى هذه المحكمة، بتوجيه شكاوى أمام مجلس الأمن الدولي، ويفترض بلبنان أيضا أن يقدم الشكاوى أمام لجان الأمم المتحدة الثماني للضغط على إسرائيل، يقول مرقص.
والجدير ذكره أن لبنان سبق وأحرز تعويضا بقيمة تقارب المليون دولار أميركي كتعويض على إسرائيل نتيجة البقعة النفطية التي سببها القصف الإسرائيلي، وإن كانت هذه التعويضات لم تنفذ إلا أنها إدانة واضحة بحق إسرائيل.