لا يزال الاستحقاق الرئاسي المؤجَّل منذ تشرين الأول 2022، “أسير” التجاذبات السياسية، ولكن أيضًا المبادرات التي تتكثّف تارةً وتنعدم تارةً أخرى، في ظلّ الحراك الثابت لدول ما بات يصطلح على تسميتها بـ”الخماسية”، والتي تضمّ الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية ودولة قطر وجمهورية مصر، والتي عاد سفراؤها لينشطوا في الأيام الأخيرة، رغم ما يُحكى عن تباينات في صفوفها، تزداد اتساعًا.
Advertisement
في هذا السياق، تتعدّد المبادرات على الخطّ الرئاسي، من دون أن تتقاطع حتى الآن على “حلّ”، أو بالحدّ الأدنى “مدخَل” لمثل هذا الحلّ، من المبادرة الفرنسيّة التي التصقت بالاستحقاق من أيامه الأولى، ويصرّ القيّمون عليها على أنّها لا تزال مطروحة، بانتظار عودة الموفد الرئاسي جان إيف لودريان، إلى آخر المبادرات، التي أطلقتها كتلة “الاعتدال”، والتي قيل إنّها غير معزولة عن حراك “الخماسية”، ولو بدا أنّها “صُنِعت في لبنان”.
ومنذ الأيام الأولى للاستحقاق الرئاسي، يُحكى أيضًا عن دورٍ قطري، وإن بقي خلف الكواليس في الغالب الأعمّ، مع تسجيل “مفارقة” تصاعده خصوصًا في محطّات “أفول” المبادرة الفرنسية، وقد عاد الحديث عن “الحراك القطري” إلى الواجهة في الأيام الأخيرة، وسط معلومات عن زيارات مرتقبة لمسؤولين لبنانيين إلى الدوحة، فما الذي يُطبَخ خلف الكواليس؟ وهل يمكن الحديث عن حراك قطري مستجدّ؟ وهل من “خرق” موعود وراء ذلك؟
“أولوية” غزة والجنوب
لعلّ الزيارة الأخيرة التي قام بها المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل إلى العاصمة القطرية الدوحة، معطوفةً على التسريبات عن زيارات مرتقبة إلى قطر لعدد من المسؤولين بينهم النائب جبران باسيل والنائب السابق وليد جنبلاط، أعادت تسليط الضوء على الحراك القطري على الخطّ الرئاسي، والذي كان قد وصل إلى ذروته قبيل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي خلطت الأولويات على المستوى الإقليمي.
يقول العارفون إنّه مع اندلاع الحرب على غزة، بات اهتمام الدوحة متركّزًا على مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، وهي مفاوضات وُصِفت بـ”الماراثونية” منذ مراحلها الأولى، التي أثمرت هدنة مؤقتة لم تدم طويلاً، وصولاً إلى مراحلها الأخيرة، في ظلّ المساعي التي لم تنجح في التوصل إلى هدنة جديدة على الأقلّ خلال شهر رمضان المبارك، وإن قالت الدوحة إنّها مستمرّة، مع إقرارها بأنّ الوضع “حسّاس وصعب”.
وفي سياق مفهوم “الأولويات” نفسه، ثمّة من يربط الاهتمام القطري بلبنان أيضًا بالوضع الملتهب في الجنوب، والمخاوف من الانزلاق إلى حرب موسّعة، في ظلّ “ترابط” جبهتي غزة والجنوب، علمًا أنّ بعض التسريبات أشارت إلى أنّ الهدف الرئيسي من زيارة النائب علي حسن خليل إلى الدوحة كانت مناقشة الوضع في الجنوب، ولا سيما أنّ الدوحة تريد أن يكون أيّ اتفاق لوقف إطلاق النار شاملاً، بحيث لا ينحصر بجبهة دون أخرى.
“جسّ نبض”
مع ذلك، يقول العارفون إنّ الملف الرئاسي لا يمكن إلا أن يكون حاضرًا على خطّ الحراك القطري، ولو من باب “جسّ النبض”، خصوصًا في ظلّ اعتقاد بأنّ أيّ بحث بترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار، أو ما يصطلح على تسميته بـ”اليوم التالي”، تتطلّب وجود رئيس منتخب للجمهورية، ولكن أيضًا بأنّ أي غوص في “سيناريوهات” التوتر، تتطلب تحصينًا للساحة الداخلية، لا يؤمّنها سوى إنهاء الشغور وانتخاب الرئيس.
ويقول العارفون إنّ حضور الدوحة على خطّ الملف الرئاسي ليس “خرقًا” بحدّ ذاته، باعتبار أنّ القطريين ينشطون على خطّ الاستحقاق منذ فترة طويلة، ولو أنّ الاهتمام تراجع بعض الشيء بالتوازي مع الحرب على غزة، وقد جاء الموفدون القطريون أكثر من مرّة إلى بيروت، والتقوا مختلف الأفرقاء، علمًا أنّ ما يميّز حراك الدوحة يكمن في قدرتها على نسج العلاقات مع مختلف الأفرقاء، ووقوفها على مسافة شبه واحدة من الجميع.
ومن هذا المنطلق، ثمّة من يسأل عمّا إذا كانت قطر في وارد تكرار تجربة “اتفاق الدوحة” الذي مهّد لانتخاب قائد الجيش السابق العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية، إلا أنّ العارفين يؤكدون أنّ هذا السيناريو لا يزال بعيدًا، ولا سيما أنّ الدوحة تحرص حتى الآن على أن يكون حراكها “منسّقًا” مع سائر أطراف “الخماسية”، وبالتالي فهي لا تسعى للعب دور “مستقلّ” عنها، كما ترفض الإقدام على أيّ خطوة، قبل ضمان نتائجها، تفاديًا لأيّ فشل يمكن أن تُمنى به.
من الدور الفرنسي إلى القطري، وبينهما “الخماسية” مجتمعة، التي يريد البعض تحويلها إلى “سداسية” وربما أكثر، يبقى “الثابت” أنّ اللبنانيين لا يزالون يراهنون على الخارج لحلّ أزماتهم، وربما انتخاب الرئيس نيابةً عنهم. لكنّ القاصي والداني يدرك أنّ كلّ ذلك لن يجدي نفعًا، لأنّ “نواة” أي حراك، ولو كان خارجيًا، يجب أن تنطلق من الداخل أولاً، على شكل “تفاهم” لا بدّ منه، على مبدأ “التفاهم” بالحدّ الأدنى!