مرّ يوم 14 آذار كيوم عادي في حياة الكثيرين من اللبنانيين تمامًا كما مرّ يوم 8 آذار. لم يعر أحد من هؤلاء الناس، الذين لا ينتمون إلى هذا التاريخ أو تلك المحطة في حياتهم السياسية، أي اهتمام لهذين اليومين، فيما وقف البعض الآخر على أطلالهما. فالاهتمام بالتطورات السياسية والميدانية والحياتية يطغى على ما عداه من الاهتمامات الأخرى، التي لم تجدِ نفعًا، أقّله بالنسبة إلى وضع حدّ للتدهور الاقتصادي الآخذ في التفاقم يومًا بعد يوم، وبالأخص بعد تداعيات مفاعيل “حرب الاسناد”.
فهذان اليومان مرّا على اللبنانيين كمجرد ذكرى رأى فيهما البعض، وكل من موقعه التموضعي، محطة أساسية في تاريخ لبنان. ويقول “الآذاريون” المنتمون إلى الثامن من آذار إنه لولا الموقف، الذي اتخذته القوى المناهضة لمشروع “بلقنة لبنان” لكان الوضع السياسي والميداني مغايرًا لما تشهده الساحة الجنوبية اليوم، التي تدفع ضريبة الدم عن كل لبنان، والتي تدافع في الوقت ذاته عن جميع اللبنانيين وباسمهم لكي لا يكون لبنان “مكسر عصا”، ولكي لا يكون موطئًا لمخططات إسرائيلية بدأت بغزة ولن تنتهي فقط في لبنان. ويعتبر هؤلاء أن “قوى 8 آذار”، والتي يعبّر عنها اليوم “الثنائي الشيعي” في شكل أساسي، هي السدّ المنيع في وجه أطماع إسرائيل في لبنان وأرضه ومياهه لضمان أمن الجليل الأعلى وسلامة المستوطنين فيه.
أمّا “آذاريو الرابع عشر” فيرون أن “انتفاضة الأرز” تجسدت في ثورة سيادية لبنانية على عصر الوصاية السورية واستباحتها للدولة والأرض والمؤسسات طوال حقبة مديدة أدت بعد تفجر حرب الاغتيالات الى تفجير ثورة اللبنانيين، بمعظم فئاتهم وطوائفهم، الى ثورة خارقة اقتلعت الوصاية السورية من لبنان. فهذه الذكرى في وضع لبنان الحالي ليست سوى مجرد حنين وجداني تتردد فيها من وقت لآخر شعارات قد أصبحت من الماضي لكثرة ما سُجّل فيها من تنازلات وانقسامات داخل الفريق الواحد، الذي تشرذم وأصبح عدة أفرقاء.
قد يبدو صحيحًا ما يذهب إليه الذين يقفون على ضفاف الفريق “الممانع” بالنسبة إلى أطماع إسرائيل عبر فتح جبهة الجنوب لمساندة أهل غزة، ولكن لم يسأل أحد هؤلاء عن الاثمان الباهظة، التي يدفعها لبنان نتيجة هذه الحرب، التي تُعطى أوصافًا كثيرة، منها ما يتطابق مع الواقع، ومنها ما هو غير مألوف. وقد يكون من بين هذه الأثمان إمكانية جرّ لبنان إلى حرب مواجهة مفتوحة لا يريدها أغلبية اللبنانيين حتى “حزب الله” بالذات. وهذه الحرب تعني أن لبنان المتراجع أساسًا اقتصاديًا واجتماعيًا وبنيويًا وحداثة وتطورًا سنوات إلى الوراء سيتراجع أكثر فأكثر، وذلك بفعل ما سيحّل به من دمار سيطال بناه التحتية المهترئة أصلًا. وقد يجد البعض في تبرير البعض الآخر لفتح الجبهة الجنوبية وفي أن ما سيحّل في إسرائيل من دمار هو أدهى مما سيصيب لبنان سببًا غير مقنع، إذ ماذا سيفيد اللبنانيين المخروبة بيوتهم رؤيتهم لإسرائيل تنهار، وهي قادرة على أن تعيد أعمار ما قد يكون قد تهدّم فيما لبنان غير قادر على ذلك.
أمّا الحديث من جهة “المعارضة” عن أن “ثورة الأرز” قد أخرجت السوري من لبنان وتخّلصت من وصايته ففيه بعض من غضّ الطرف عن واقع مأزوم يعيشه لبنان اليوم، حيث تحّولت “الوصاية السورية” إلى وصايات أخرى لا تقّل في مفاعيلها ونتائجها عن المفاعيل السيئة لـ “الوصاية الأصلية”. فلبنان يعيش اليوم “وصايات” من نوع آخر” كـ “الوصاية” المفروضة على رئاسة الجمهورية عن طريق تغييب دورها بفعل استمرار الشغور الرئاسي، وكـ “وصاية” انهيار مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، وكـ “وصاية” النزوح السوري، وكـ “وصاية” التدهور الاقتصادي المخيف والمقلق في آن.
ونسأل مع السائلين هؤلاء وأولئك: أليس في ظلّ “8 آذار” و”14 آذار طارت ودائع الناس من المصارف؟ أليس في ظلهمّا أدخل إلى لبنان ما يقارب المليوني نازح سوري؟ ألم ينهار اقتصاد لبنان وهم كانوا في السلطة في شكل أو في آخر؟ ألم “يذهب” لبنان فرق عملة في ظل صراعات هذين الفريقين؟ ألم يعش لبنان أسوأ أيامه ما بين اليوم والأمس؟ ألم يقع انفجار المرفأ تحت أنظارهم؟
فلكل هذا مرّ 8 آذار وكذلك مرّ يوم 14 آذار كيومين أقل من عاديين من دون أن يتركا في نفوس معظم اللبنانيين أي أثر.