مجدّدًا، دعا رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل إلى “حوار مسيحي” برعاية بكركي، حيث طلب من البطريرك الماروني بشارة الراعي “المؤتمن على مجد لبنان”، أن يجمع القيادات السياسية المسيحية، مشدّدًا على أنّ “الوقت ليس للمزايدات ولا للعدائية”، ومناشدًا “القوات” و”الكتائب” و”المردة” وضع “خط أحمر عريض تحت الوجود والشراكة المتناصفة”، وفق تعبيره.
وإذا كان باسيل وضع هذا الحوار في خانة “الطبيعي”، باعتباره أنه “لا يوجد سبب لعدم اللقاء”، فإنّ دعوته تأتي في وقت لا يزال مبدأ الحوار مثيرًا للجدل في الأوساط السياسية، ولا سيما المسيحية منها، في ظلّ الموقف المعروف خصوصًا لحزبي “القوات” و”الكتائب” اللذين يعتبران أنّ المطلوب اليوم الذهاب إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية بالطرق الديمقراطية، بعيدًا عن فرض “بِدَع جديد” من نوع الحوار السابق للانتخاب.
وفي وقت لم يصدر موقف رسميّ عن بكركي إزاء دعوة باسيل المتجدّدة، علمًا أنّ محاولات الراعي رعاية حوار مسيحي قبل أشهر اصطدمت بالفيتوات والتحفظات، التي دفعته لتحويل الحوار إلى الصلاة، تُطرَح علامات استفهام عن “مغزى” الدعوة في هذا التوقيت، ولكن أكثر من ذلك، عن مدى قابليّتها للتنفيذ، فهل يمكن لحوار مسيحي من هذا النوع أن يبصر النور اليوم؟ وما هو المأمول منه في هذه الحالة، في ظلّ الاستقطاب السياسي الحاد؟
أهمية الحوار المسيحي
في سياق دعوته الراعي إلى جمع القيادات المسيحية في بكركي، قال باسيل إنّه “لا يوجد سبب لعدم الالتقاء”، وهو بالتحديد ما ينطلق منه المحسوبون على باسيل في الدفاع عن فكرة الحوار المسيحي المسيحي، والتأكيد على أهميته في هذا التوقيت بالتحديد، ولنقاش مسائل ترتبط بجوهر الوجود المسيحي في لبنان.
وإذا كان الاستحقاق الرئاسي يأتي على رأس “الأجندة”، في ظلّ الفراغ الرئاسي المستمرّ في قصر بعبدا منذ نهاية تشرين الأول 2022، في وقت يدرك القاصي والداني أنّ اتفاقًا مسيحيًا حقيقيًا يمكن أن يضع له حدًا، ويشكّل مَدخَلاً بديهيًا لانتخاب الرئيس، فإنّ أوساط “التيار” تشدّد على أنّ فكرة الحوار المسيحي ينبغي أن تكون أعمق وأبعد من الاستحقاق الآني، وتركّز على جوهر “الشراكة” بمنطق “المناصفة” بالدرجة الأولى.
من هنا، تقول أوساط “التيار” إنّ السؤال لا يجب أن يكون عن مغزى الحوار، أو الحوافز التي يمكن أن تدفع باتجاهه، بل على النقيض، عن أسباب عدم حصول التلاقي المسيحي، رغم الأزمات الوجودية التي يواجهها المسيحيون على غير صعيد، وهي تعرب عن “تفاؤلها” بأنّ الفكرة ستجد آذانًا صاغية في بكركي، ولا سيما أنّ البطريرك الماروني هو من الدعاة إلى الحوار والتلاقي، ولا يوفّر فرصة إلا ويحثّ فيها الأطراف على تجاوز خلافاتهم.
تحفّظات وتعقيدات
لكن، في مقابل تفاؤل أوساط “التيار”، لم توحِ المؤشّرات الأولية بأنّ دعوة باسيل قوبلت باهتمام في الأوساط المسيحية، سواء منها الكنسية أو السياسية، بل إنّ العارفين يتحدّثون عن “برودة” قوبلت بها حتى في بكركي، التي لا تبدو في وارد تكرار التجربة “المُرّة” السابقة يوم فشلت في جمع النواب المسيحيين على لقاء أبعد من “الصلاة والتأمّل”، فضلاً عن كونها لا تحبّذ الدعوة إلى حوار من أجل الحوار، بل هي تريد ضمان نجاحه سلفًا، وهو ما لا يبدو متوافرًا الآن.
في المقابل، فإنّ القوى المسيحية الأساسية التي توجّه إليها باسيل، أي “القوات” و”الكتائب” و”المردة”، لم تبدُ هي الأخرى “مرتاحة” لدعوة باسيل، وإن تريّث بعضها في حسم موقفه منها، بانتظار نضوج الفكرة على الأقلّ، فأوساط “المردة” مثلاً تبدو حَذِرة في التعامل مع مثل هذه الدعوة، التي لا تقرأ فيها سوى فصل جديد من فصول محاولات إسقاط ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية، وهو الأمر الوحيد الذي يبدو أنّ الأحزاب المسيحية الأخرى تتّفق عليه.
ولا يبدو موقف “القوات” و”الكتائب” أفضل، ولو تفاوتت نظرتهما إلى التفاصيل، فـ”القوات” لا ترى طائلاً من الحوار في الوقت الحالي، وتعتبر أنّ الأولوية يجب أن تكون محصورة بانتخاب رئيس، علمًا أنّ المشكلة الأكبر مع باسيل تكمن في موقفه من سلاح “حزب الله”، فيما تبدي أوساط “الكتائب” مرونة أكبر في الموقف، لكنّها تعتبر أنّ الحوار حول الرئاسة غير مُجدٍ، إذا لم يسبقه إعلان واضح وصريح بسحب ترشيح سليمان فرنجية من التداول.
لا توحي المعطيات المتوافرة أنّ “الحوار المسيحي” الذي دعا إليه باسيل سيبصر النور، في ظلّ المعطيات الآنية، ولو أنّه يفتح الباب أمام علامات استفهام أخرى، فكيف لمن يرفض حوارًا وطنيًا موسّعًا أن يقبل بحوار محصور بصبغة طائفية محدّدة؟ وأليس الأوْلى أن يتلاقى جميع الأطراف، تحت سقف حوار وطني، للتفاهم على وضع حدّ للشغور الرئاسي، الذي يعني كل اللبنانيين بطبيعة الحال؟!