المناصفة في الشراكة والسلاح في يد الجيش

23 مارس 2024
المناصفة في الشراكة والسلاح في يد الجيش

كتبت غادة حلاوي في” نداء الوطن”: يوضح الفرق بين مسوّدتي «وثيقة بكركي» بنسختيْها الأولى والثانية، أنّ النقاشات بين المجتمعين نجحت في نقل الحوار المسيحي من ضفة إلى أخرى. من حالة غضب إنفعالي على «حزب الله» والشيعية السياسية إلى عقلنة الخطاب. وبدل أن يكون عنوان النقاش محصوراً بمستقبل المسيحيين «في لحظة مليئة بالمخاطر» صار السؤال يتركّز حول مستقبل لبنان. وبدل أن يؤخذ النقاش في شأن «حزب الله» وسلاحه إلى منعطف تفجيري، طرح كملف يمكن التفاوض عليه مع المسلمين.

يتّضح من خلال جلستي الحوار لممثلي القوى السياسية برئاسة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، أنّ المطلوب أن يكون النقاش مفتوحاً وألّا تعترضه مقدّسات أو محرّمات، ولكنّ معالجة موضوع سلاح «حزب الله» تفترض العودة إلى تاريخ نشأته وصولاً إلى القرار 1559، فهل المطلوب الانصياع إلى رغبة المجتمع الدولي الذي اتّخذ القرار أم الاكتفاء بإعلان احترام القرارات الدولية، وعلى من أصدر القرار أن ينفّذه؟
وإذا كان البعض يدرج سلاح «حزب الله» ضمن سلاح الميليشيات، فإنّ الأمم المتحدة بعد مجزرة قانا عام 2006 شرّعت هذا السلاح وتحدّثت في سياق بنود «تفاهم نيسان» عن حقّ الدفاع عن النفس. يومها كانت كل الأحزاب السياسية منضوية تحت ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة»، فهل يمكن للمسيحيين اليوم الطلب إلى «حزب الله» تسليم سلاحه بالقوة؟ وهل يفرض منطق الأمور التصادم معه أو الجلوس إلى طاولة حوار حول السلاح يوصل إلى الاتفاق على الاستراتيجية الدفاعية؟
‎والتقت وجهات النظر تقريباً على أنّ المقصود ليس الحديث مع الآخر من خلفية عدائية، وإنّما من خلفية حوارية وكلّ من موقعه، من دون أن يكون الهدف التوصّل إلى تسويات على حساب القناعات، ولا بدّ ساعتئذ من الوصول إلى مقاربات منطقية.
على امتداد النقاشات، بدت بكركي منحازة إلى تسييد لغة الحوار ودفعت في اتجاهه، بما حال دون إصدار وثيقة تعبّر في مضمونها عن مخاوف المسيحيين وما آلت إليه أوضاعهم من تهميش واستفراد الآخرين في القرار ونقل البحث إلى مكان يفتح على الحوار ويقدّم مقاربة مختلفة عن تلك التي وردت في نص مسوّدة الوثيقة الأولى. وفي سياق الحوار، طرح أحد المشاركين ضرورة إضافة بند يتحدّث عن منع الاعتداء على الدول العربية ومهاجمتها سياسياً من قبل «حزب الله»، فكان الجواب أنّ دول الخليج دخلت في حوار مباشر مع «الحزب» والتطبيع بين الطرفين آخذ بالتبلور. 
مسوّدة أكثر ليونة
‎النقاشات لا تزال مستمرّة وبنود المسوّدة الأولى لوثيقة بكركي شهدت تعديلاً، فجاءت الثانية أكثر مرونة في مقاربة الموضوعات، ولا سيّما من بينها مبدأ الشراكة الوطنية وحصر السلاح في يد الجيش اللبناني بعد تعزيز قدراته. 
‎لحظت مسوّدة الوثيقة الأولى ضرورة أن يسعى المسيحيون إلى التلاقي في لحظة مليئة بالمخاطر، حول العناوين السياسية المتعلّقة بلبنان ومصيره، وطرح السؤال: المسيحيون في لبنان إلى أين؟ فالأخطار المحدقة بلبنان تحتّم عليهم التلاقي بروح الشراكة، والمحبة والتضامن، وبالاجتماع حول الخيارات الكبرى. فقرة تمّ حذفها في صياغة المسوّدة الثانية التي انتقلت من الحديث عن الخاص المسيحي إلى اللبناني العام. وتحت عنوان لبنان بين الحياة والموت اعتبرت أنّ «لبنان يعيش مرحلة خطرة ومصيرية لم يعرف لها مثيلاً في تاريخه الحديث والمعاصر. فإمّا أن يبقى، كما أراده الآباء المؤسّسون والأجداد، وطناً متمِّيزاً في الشرق والعالم العربيّ، وإمَّا أن يفقد ذاته وهويته ويخضع لمنطق الهيمنة التي تبتلع تدريجياً خصائصه ومقوّماته الجوهرية، وتلغي طابعه الحضاري، وتُدخله في أتون الرهانات الخارجية التي لا تتناسب وخياراته التاريخيَّة وثقافة شعبه». ‎وتخوّفت المسوّدة من أن «يكون لبنان أمام تحوّل، من وطن الحرية والشراكة السويّة، إلى لبنان الدولة الدينية، والفاقد سيادته، والتابع لغيره، والمضيّع هويّته التاريخية ورسالته الخاصة». لذلك «يحتاج المسيحيون على اختِلاف مشاربهم في هذه اللّحظة التَّاريخيَّة، إلى التفكير العميق المشترك بالمسائل العالقة في ما بينهم أوّلاً، ومع شركائهم ثانياً وتحديد ثوابت الإنقاذ مع مسار المعالجات بما يصون لبنان في خصائص رسالته».
الأخطار المحدقة
وحدّدت المسوّدة «الأخطار المحدقة بلبنان وبالوجود المسيحي فيه: وهي اضمحلال دولة الدستور والقانون والمؤسسات، خطر التوطين، بيع المسيحيين الأراضي، نزيف الهجرة والتغيّر الديموغرافي، الفساد، الخلاف المسيحي – المسيحي، صعود التيّارات الأصولية التي تهدّد المسلمين والمسيحيين، فرض تبدّل نمط الحياة وتغيير بعدها الثقافي والاجتماعي، تراجع الحضور المسيحي والتحالفات السياسية الهجينة خارج الثوابت. مع إضافة بندين في المسوّدة الثانية يتمحوران حول «انتِهاك سيادة الدَّولة بالسّلاح غير الشرعي اللّبناني وغير اللّبناني (الفلسطيني) بأجندات غير لبنانيّة، وسياسة خارجيَّة مشوّهة عطَّلت علاقات لبنان بأشقّائه في العالم العربي، وأصدقائه في المجتمع الدّولي، وتحويل لبنان إلى ساحة أيديولوجيَّة مُغلَقَة شموليَّة خارجة عن ثوابت الهويَّة اللُّبنانيَّة التَّاريخيَّة».
‎وفي ما يتعلّق بالثوابت التاريخية للمسيحيين وللّبنانيّين، ابتعدت المسوّدة الثانية عن تخصيص المسيحيين في ذكر الثوابت للتحدّث عن ثوابت يلتقي عليها المسلمون والمسيحيون معاً: الحريَّة بكل أبعادها، العيش المشترك السويّ والمساوي في الحقوق والواجبات، والمناصفة في الشراكة في الحكم مع الإخوة المسلمين، الطابع التعدّدي للمجتمع، الطابع المدني للدولة، الميثاق الوطني، وفي صُلبِه حياد لبنان عن الصّراعات الإقليميَّة والدّوليّة، وتطبيق اتفاق الطائف بكل مندرجاته، التزام القرارات الدولية في ما يتعلق بلبنان وتطبيقها (1701،1680،1559)، وبمبادرة السلام العربيّة (بيروت 2002)، حقّ الدّولة ببسط سيادتها على كامل أراضيها وحماية حدودها، وهذه مهمّة الجيش اللّبناني والقوى العسكريَّة والأمنيّة حصراً، الإلتِزام الأخلاقي بمواجهة كل أشكال الفساد، تنفيذ الإصلاحات البنيويّة التي وردت في اتّفاق الطّائف، مع سدّ الثُغر فيه، وفي مقدّم هذه الإصلاحات اللامركزيّة الإداريَّة الموسّعة، وضع وتنفيذ سياسة عامة تقي لبنان مخاطر أي توطين مباشر أو مقنّع للاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين على أرضه.
المعالجات 
‎تحدّثت الوثيقة عن وضع ميثاق شرف يحلّ أيّ إشكال داخل البيت الواحد بالحوار وبالحوار وحده، على أن يتوسّع ميثاق الشرف ويشمل كلّ الأفرقاء اللّبنانيين، والعمل معاً على انتخاب رئيس جديد للجمهورية (حذفت عبارة «فوري» من المسوّدة الأولى)، وضرورة النجاح في ذلك من دون تأخير، إذ لا تستقيم دولة من دون رأس مؤتمن على الشرعيّة والدستور، والتمسّك بالشرعية الوطنية الواردة في الدّستور اللّبناني، وتوفير مقوّمات الصمود للشعب اللّبناني، بما يوقف مسار الاستنزاف الكارثي والهجرة، خصوصاً لدى المسيحيّين، لكن أيضاً لدى شركائهم في المواطنة، وتقديم خطة تعافٍ اقتصادية – مالية كاملة، وتحييد لبنان وصولاً إلى حياده الإيجابي ضمن مسار دستوري قانوني واضح المعالم بالاستناد إلى الشراكة الميثاقيّة بين مكوّناته، ووضع السيادة الوطنية في حمى الجيش اللبناني والقِوى العسكريّة والأمنيّة الشرعيّة حصراً، مع تبنّي استراتيجيّة دفاعيّة واضحة، وفكّ عزلة لبنان العربية والدولية وعدم تحميله وحده مشكلة الشرق الأوسط برمّتها.
هي مسوّدة لا تزال في طور النقاش الذي يفترض أن يستكمل في اجتماعات لاحقة قبل الاتفاق على صدورها بصيغتها النهائية مع تعديلات إضافية حيث يلزم، ويتمّ الانتقال إلى المرحلة الثانية من العمل في حال أقرّت بإجماع الحاضرين من القوى المسيحية باستثناء حزب «المردة» الذي تحرجه ورئيسه، وهو مرشح «حزب الله» للرئاسة، المشاركة في نقاشات تحت هذه العناوين. وتبقى العبرة في ما سترسو عليه النقاشات وتقرّه الوثيقة ليكون موضع إجماع أو يجدّد الانقسام ويوسّعه مسيحياً.