على هامش جريمة جبيل المشؤومة.. من يضبط نار الفتنة؟!

9 أبريل 2024
على هامش جريمة جبيل المشؤومة.. من يضبط نار الفتنة؟!


كان مجرّد انتشار خبر اختطاف منسق حزب “القوات اللبنانية” في منطقة جبيل باسكال سليمان، قبل أن تتكشّف فصول الجريمة “المشؤومة” التي أودت بحياته، كافيًا لتغذية “خطاب طائفي” اعتقد كثيرون أنّه قد ولّى، إلا أنّه يعود بين الفينة والأخرى، وقد تجلّى بشكل واضح عبر منصّات التواصل الاجتماعي، حيث رُصِدت دعوات للتسليح والأمن الذاتي، ووصلت لحدّ التهديد والتهويل، بما ينذر بصدام مذهبيّ قد يكون أخطر من الجريمة نفسها.

 
لكنّ الجريمة الأخيرة التي لم تكتمل ملابساتها كافة، ليست سوى جزء من “تراكمات” أعادت إحياء “الخطاب الطائفي” في الفترة الأخيرة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، حادثة الكحالة الشهيرة، حين انقلبت شاحنة محملة بالأسلحة لـ”حزب الله”، وقبلها حادثة عين الرمانة حين اشتعلت المواجهة بين “حزب الله” و”القوات اللبنانية”، وبينهما سلسلة أحداثٍ ومحطّات أخذ فيها التوتر السياسي والأمنيّ طابعًا طائفيًا ومذهبيًا، كانت “نار الفتنة” أبرز معالمه.
 
وإذا كان بين السياسيين من يلعب دورًا مهمًا في “وأد الفتنة”، إن جاز التعبير، من خلال خطاب “عقلاني” يسهم في “احتواء” هذا النوع من الأحداث، إلى جانب الدور المطلوب من الأجهزة الأمنية المسؤولة بالدرجة الأولى عن حماية المواطنين، فإنّ هناك تساؤلات مشروعة تُطرَح في المقابل حول أداء قوى وأطراف، تسهم من حيث تقصد أو لا تقصد في “توتير الجوّ”، ما يخلق مناخات “متشنّجة”، يصبح معها الخطاب الطائفي “تحصيلاً حاصلاً”.
 
“حساسيّة” جريمة جبيل
 
بالعودة إلى جريمة جبيل المشؤومة، يقول العارفون إنّه كان من الطبيعي أن تثير “الحساسيّات” حتى قبل فهم ملابساتها، للعديد من الاعتبارات والحسابات المرتبطة بها، سواء لجهة الموقع الجغرافي في منطقة تُعَدّ “مختلطة”، أو لجهة الشخص المُستهدَف، والمكانة “الحزبية” التي يتمتع بها، وهو ما دفع القيادة “القواتية” في بادئ الأمر إلى محاولة “استيعاب” الموضوع من خلال نزول رئيس الحزب سمير جعجع إلى الأرض، والدعوة إلى عدم استباق التحقيقات.
 
ومع أنّ الأداء بقي “مضبوطًا” حتى بعد اكتشاف فصول الجريمة، في ضوء دعوة “القوات” إلى إخلاء الساحات، رغم الشكوك التي أبدتها إزاء الرواية الرسمية التي قالت إنّها لا تبدو “منسجمة” مع الواقع، إلا أنّ الخطاب “الطائفي” الذي انتشر بالتوازي كان أسرع وقعًا، وهو ما أمكن رصده عبر منصّات التواصل الاجتماعي، التي امتلأت بمنشورات اختلط فيها حابل السياسة بنابل الأمن، ولم تخلُ من الطابع “التحريضي”، معطوفًا على إثارة الغرائز الطائفية والمذهبية،
 
وقد يكون الأخطر من ذلك في المنشورات التي أعقبت حادثة الاختطاف وحتى قبل اكتشاف معالم الجريمة، يكمن في الدعوات إلى “الأمن الذاتي”، بل إلى “تسليح” الأحزاب، وذلك في مواجهة “حزب الله”، فيما لم يتوانَ البعض عن التهديد بـ”عمليات خطف مضادة”، على طريقة “العين بالعين والسنّ بالسنّ”، علمًا أنّ كلّ ما سبق وُضِع في خانة “التوظيف السياسي للحادثة”، والذي استبق التحقيقات، في مفارقة أخرى مثيرة للانتباه، وربما الاستغراب.
 
من يتحمّل المسؤولية؟
 
لكن، بعيدًا عن الحكم على الخطاب الطائفي الذي انتشر بين الناس في أعقاب حادثة الاختطاف، بمعزل عمّا إذا كان “عفويًا” انطلاقًا من شعور البعض بالخطر في ضوء تراكم الأحداث الأمنية المشابهة، وبحثهم عن “الحماية”، أو إذا كان “متعمَّدًا ومقصودًا”، في إطار مساعي الطابور الخامس المتكرّرة لإيقاع “الفتنة”، ثمّة من يسأل عمّن يتحمّل عمليًا المسؤولية الحقيقية عن وصول الأمور إلى هذا المستوى، وعن دور القوى السياسية في هذا المضمار.
 
يتحدّث العارفون في هذا السياق عن “مسؤولية جماعية” للقوى السياسية في خلق مناخ “التوتر الطائفي”، الذي سرعان ما يجد صداه في مثل هذه الأحداث، وهو ما لا تكون هذه القوى قد حسبت حسابه جيّدًا، علمًا أنّ “المزايدات الطائفية” التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية تلعب دورًا أساسيًا في هذا الإطار، ولا سيما أنّها تولد شعورًا متفاقمًا بالاحتقان، ينفجر في اللحظات الدقيقة والصعبة، كما حصل بعد حادثة الاختطاف.
 
وإذا كان هناك من يرى في المقابل، أنّ المشكلة تكمن في وجود سلاح رديف خارج الدولة، وهو الأمر الذي يفاقم التوترات، حتى لو لم يكن هذا السلاح مسؤولاً عن هذه التوترات، أو كان محصورًا بأهداف مبدئيّة متفَق عليها، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّ مسؤولية القوى السياسية تكمن في “احتواء” مثل هذه الأمور لا “تغذيتها”، لأنّ الاحتواء هو الذي يضبط “نار الفتنة”، في حين أنّ التغذية لا تؤدي سوى لاشتعالها، الذي لا يقود سوى إلى المجهول.
 

لا شكّ أنّ الجريمة “المشؤومة” التي هزّت البلاد في اليومين الماضيين، استدعت “استنفارًا” على أعلى المستويات، فهي لم تؤشّر فقط إلى وجود عصابات تعبث بالأمن وتقامر بالوطن، ولكن أيضًا إلى مشاكل بنيوية في التركيبة السياسية والاجتماعية لا يمكن القفز فوقها. وإذا كان صحيحًا أنّ “الفتنة الطائفية” تُعَدّ من أخطر “أعداء لبنان”، فإنّ المطلوبة “استثمار” الجريمة لمواجهتها، وذلك من خلال أداء وطنيّ واعٍ وحكيم، بعيد عن كلّ المزايدات “القاتلة”!