لمن لا يتذكّر ما حصل قبل حادثة بوسطة عين الرمانة نحيله إلى مشهدية اليوم. فبعد 49 سنة لا نزال نرى أن من خطّط قبل نصف قرن لإيصال لبنان إلى ما وصل إليه في ذاك التاريخ، أي بداية الحرب التي أُطلقت عليها تسميات كثيرة، ومن بينها “الحرب الأهلية” و”حرب الآخرين على أرض لبنان “، لا يزال ماضيًا في مخططاته الجهنمية. ولكي يستطيع أن يصل المخططون لفتنة كبيرة إلى غاياتهم المشبوهة يلجأون إلى تهيئة المناخات الملائمة بكل الطرق اللوجستية والنفسية، قبل أن يسدّدوا ضربتهم القاضية.
Advertisement
قبل نصف قرن كان الخبر ينتقل ببطء، إذ لم تكن الإذاعات والتلفزيونات منتشرة كما هي الحال اليوم، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد غزت البيوت والنفوس. أمّا اليوم ومع سرعة انتشار الخبر عبر الأقمار الصناعية وعبر الأثير اصبحت “مهمة” المخطّطين والمنفذين أسهل، إذا أصبح في استطاعتهم بث كمية أكبر من الحقد والكراهية بالآف المرات أكثر من السابق. وهنا يجب ألا ننسى أن ثمة جهات كثيرة تحاول الاستثمار أمنيًا من خلال استغلال وجع الناس وما يعيشونه من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة وخطيرة، مع ما يُبثّ من كمٍّ هائل من الإشاعات المغلوطة والمعلومات المضللة والكثير من “القال والقيل”، بهدف خلق نوع من البلبلة والفوضى المنظّمة والممنهجة والهادفة إلى خلق حال من الذعر والخوف بين الناس.
فما حصل قبل أيام عندما امتدّت يد الاجرام إلى القيادي القواتي باسكال سليمان يدفعنا إلى التساؤل عمّن يستفيد من هذه الأجواء، ومن يحاول اللعب على التناقضات والتشنجات والعصبيات، ومن يحاول اللعب بنار الفتنة؟
“13 آب أقلب الصفحة”، ومقولة “تنذكر وما تنعاد”، تكذّبها الوقائع، على رغم أن الذين عايشوا تلك الفترة وما جرّته الحوادث الأمنية من مآسٍ ويلات واكتووا بنارها غير مستعدين لتكرار ويلاتها ومصائبها. وما يدعو إلى القلق أكثر هو الاستحالة الداخلية على التفاهم على إخراج الرئاسة الأولى من أسر ربطها بأزمات الخارج، والتمترس وراء أكياس، ليست من رمل هذه المرّة، ولكنها نتيجة التعنت والاستمرار في حجز حرية الكرسي الرئاسي وعدم الاستعداد للإفراج عنها.
49 سنة مرت على حادثة بوسطة عين الرمانة، ولا نزال نركب في بوسطة الطائفية والمحسوبية والزبائنية والتبعية والمصالح الضيقة، وبوسطة سياسة “المختار والناطور”. ما حصل على طريق ميفوق، ومنها إلى الداخل السوري ليس حدثًا عادّيًا، ويجب الا يكون بهذه الصفة، لأن تداعياته لن تنتهي عند مراسم الدفن، التي ستقام اليوم في جبيل، وفي ذلك تذكير بما حصل على أثر حادثة “بوسطة” عين الرمانة ” وما تلاها من تفكّك لأواصر الدولة والوطن، بفعل غياب هذه الدولة، التي لم تكن يومًا من الأيام دولة.
لن أجاري الكثيرين الذين يذكرّون ما يحصل اليوم بما حصل قبل سنوات. ليس تهرّبًا من مقاربة ما في هذا التشبيه من حقائق ووقائع، ولكن خوفًا من أن ترد في ذهني أهوال ما حصل بالأمس، وما نتج عنه من كوارث لم توصل سوى إلى نتيجة واحدة، وهي أن خسارة ما كان يتمتع به لبنان من سمعة طيبة، وخسارة شباب كانوا الأمل، وخسارة وطن قد يذهب فرق عملة ونتيجة تسويات أو صفقات أو مؤامرات أو مكائد، كانت هي الغالبة في الماضي، وستظل هكذا ما دام أبناؤه منقسمين ومختلفين في ما بينهم على أمور كثيرة، إن لم نقل إن خلافهم الأساسي هو على تحديد “جنس الملائكة”، فيما أسوار الوطن تُدّك تمهيدًا لإسقاطها.
فلا توقظوا شياطين الفتنة. لا تعيدوا إحياء من كان السبب في خراب بلد كان يُعرف بـ “سويسرا الشرق”. انبذوا من لا يريد أن يتفق اللبنانيون في ما بينهم. لا تتركوا أعداء لبنان، وهم كثر، يتسللون إلى عقر الدار. لا تعطوا المتضررين من صيغة لبنان الفريدة الفرصة للانقضاض عليكم. اتركوا كل من لا يريد أن يعود لبنان ليقف من جديد على رجليه خارج الأسوار. لا توقظوا كل هذا الشرّ المتربص باللبنانيين.