في السياسة، تتبدل حسابات القوى السياسية وفق الظروف والوقائع المستجدة، فمشهدية العام 2011 اختلفت تماما في العام 2024 تجاه كيفية التعاطي مع أزمة النازحين السوريين في لبنان لا سيما من جانب فريق ما كان يسمّى بـ14 آذار. فبسحر ساحر أصبح ملف النزوح يشكل خطراً وجودياً على لبنان ويجب معالجته قبل فوات الأوان( علماً أن 13 عاماً قد مضت على هذه الأزمة المستعصية)، وصولاً إلى الهجوم على مفوضية اللاجئين التي لا تسلم لبنان الداتا لكي لا يتم سحب بطاقة النزوح من النازحين الذين يدخلون إلى سوريا ويعودون، بحسب رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي، للمفارقة رفض في العام 2015 استمرار مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في لبنان تسجيل اللاجئين السوريين، علما أنه يجب أن تكون لدى المواليد الجدد وثيقة تثبت نسبهم حتى تعترف بهم الدولة السورية وتدخلهم الى اراضبها.
في تاريخ السبت 12 تشرين الثاني 2011، برمج عدد من قياديي 14 آذار رحلة تحت شعار إنساني، إلى محافظة عكار ومنطقة وادي خالد تحديدًا، وقد ضم الوفد حينذاك نوابا عن حزب القوات وتيار المستقبل فضلا منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق فارس سعيد، وشخصيات سياسية تدور في الفلك نفسه، بهدف فتح الأبواب مع النازحين السوريين، ربطاً بتحميل الحكومة اللبنانية والجيش والأجهزة الأمنية كافة مسؤولية حماية أمن هؤلاء وعدم التعرض لهم من أي جهة كانت.
دعم “فريق 14آذار “في ذلك الحين النزوح العشوائي وقطع الطريق على الدولة لتنظيم هذا الملف، بالتوازي مع تصدي مسؤولي هذا الفريق لتدخل الجيش في فرض الأمن والاستقرار. يتذكر اللبنانيون تصريح رئيس “حزب القوات اللبنانية”سمير جعجع لـMTV في تاريخ12 آذار 2012حيث قال” إن بعض الأجهزة تتعامل على أن دخول اللاجئين السوريين هو دخول خلسة إلى لبنان، شو هالمزح هيدا؟”، مشددًا على أن “الموقف الرسمي اللبناني يجب أن يكون محايداً ويأخذ بالاعتبار القوانين اللبنانية والدولية”.
سبحة مواقف حزب “القوات” وفريق 14 آذار الرافضة لعودة النازحين إلى ديارهم قبل سقوط الرئيس بشار الأسد (الاسد لا يزال رئيساً واعيد انتخابه)، استمرت ، ففي جلسة الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري 20 شباط 2019، اعترض وزراء القوات على زيارة وزير شؤون النازحين صالح الغريب لدمشق لتنظيم عودة النازحين، وضد موقف وزير الدفاع الياس بو صعب على هامش مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ الرافض للمنطقة التركية العازلة في شمال سوريا.
وصوّب الوزير ريشار قيوميجيان على المجلس الأعلى اللبناني السوري ورئيسه نصري خوري، فوصف المجلس بـ”الشيطاني”. وذكّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بحربه مع السوريين نهاية الثمانينيات. وفيما شارك وزير الاعلام جمال الجراح زملاءه القواتيين في الحملة.
الواقع الراهن اختلف، واختلفت معه المقاربات التي لا تخلو من التنظير، وفق مصدر سياسي بارز مطلع مواكب لملف النزوح، معتبراً أن “حزب القوات اللبنانية” وحلفاءه لا يزالون على موقفه الرافض لتفاوض لبنان الرسمي مع الدولة السورية المعترف بها في جامعة الدول العربية والتي عملت دول خليجية عدة على إعادة ترتيب علاقاتها معها وفتح سفاراتها في دمشق. يركز حزب “القوات” على أبعاد ثلاثة لعملية النزوح وتتصل بتطبيق تعاميم وزارة الداخلية، شرح خطر الوجود السوري على لبنان للمجتمع الدولي والمنظمات المعنية وتوعية المواطنين. هذه الأبعاد على أهميتها لا يعيرها المصدر أهمية، على اعتبار أن المنظمات الدولية والاوروبية تعي جيداً ما يعانيه لبنان على كل المستويات والصعد من جراء النزوح السوري، وترفض تقديم حوافز للعائدين إلى ديارهم، فمساعداتها مشروطة ببقاء هؤلاء في لبنان، وهناك جمعيات ممولة من الخارج، تضم في صفوفها مسؤولين في أحزاب 14 آذار ساهمت في تحفيز السوري على البقاء في لبنان.
وفق الحملة الوطنية لإعادة النازخين السوريين، فقد أدى تدفق النازحين السوريين بعدد تجاوز مليونين ومئة ألف قابله هجرة للبنانيين بعدد تجاوز 900 الف لبناني بين الاعوام 2015 و2022 منهم 300 الف بين عامي 2020 و2022 وبحسب أرقام المديرية العامة للامن العام اللبناني أدى كل ذلك إلى تغيير ديموغرافي لعشرات البلدات اللبنانية خصوصا وان انتشارهم الفوضوي في أكثر من 1000 بلدة من أصل 1409 بلدة سيؤدي إلى تغيير النسيج الثقافي والاجتماعي للمجتمعات المضيفة.
يطرح ما تقدم أسئلة عن دور الاحزاب السياسية المنضوية تحت” راية 14 آذار حيال التغيير الديمغرافي لعدد من البلدات وعلى سبيل المثال لا الحصر بلدة عرسال وكيف وصلت الأوضاع فيها إلى ما وصلت إليه، في حين أنها اليوم تحاول رمي الكرة في ملعب الحكومة المنهمكة بمعالجة هذا الملف فضلاً عن مساعيها الدولية من أجل وقف إسرائيل حربها ضد لبنان مروراً بالأوضاع الاقتصادية والمالية المتعثرة منذ ثورة 17 تشرين2019، فقد تواصل رئيس الحكومة مع نظيره السوري من أجل إيجاد آلية لترحيل السجناء السوريين وتم تكليف المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري التواصل مع المعنيين في سوريا لإيجاد حل لملف المسجونين السوريين في السجون اللبنانية، بيد أن انعدام المسؤولية في مقاربة ملف النزوح وهبة المليار يورو، تظهر بشكل واضح، علما أن رئيس الحكومة الذي تمنى على رئيس المجلس النيابي عقد جلسة لمناقشة هذه الهبة، شدد على أنها حصراً للبنان لمساعدته على التخفيف من الأزمات المختلفة التي يعاني منها، وشدد على أن لا يوجد أي تعهد من قبلنا في ما يخص السوريين ولا أي نص مكتوب بهذا الخصوص، فهي مخصصة لدعم الجيش والقوى الأمنية، ولتمرير المرحلة الإقتصادية الصعبة وتحقيق نوع من الاستمرارية لبعض الخدمات الأساسية وأبرزها الصحة والتعليم.
وبانتظار جلسة 15 أيار الجاري ومواقف النواب لجهة كيفية التعاطي مع الهبة ومقاربة ملف النزوح، فإن “حزب القوات اللبنانية”بدأ التحضير لتحرك شعبي في بروكسيل، في 27 ايار، تزامناً مع اجتماع الدول المانحة، للمطالبة بمنح المساعدات للسوريين داخل بلدهم وليس في لبنان، علماً أن مطالبة حزب القوات هذه، ليست جديدة فرئيس الحكومة طالب الاتحاد الأوروبي أن يغيّر سياسته في ما يتعلق بمساعدة النازحين السوريين في لبنان، وأن تكون المساعدة موجّهة لتحقيق عودتهم إلى بلادهم وأن لبنان وضع شرطاً على الاتحاد الاوروبي ألا تُعطى المساعدات للسوريين في لبنان.
في الخلاصة، عودة السوريين إلى ديارهم تبقى رهن المجتمع الدولي، مهما علت الأصوات في لبنان مطالبة بذلك، فرئيس الجمهورية السابق ميشال عون لم يتمكن من إعادة السوريين إلى بلدهم رغم علاقته القوية مع الرئيس السوري بشار الأسد وتواصله الاسبوعي معه عبر الهاتف، كذلك الأمر بالنسبة إلى النائب جبران باسيل الذي فشل في القيام بخطوات عملية في ملف النزوح السوري، خلال توليه منصب وزير للخارجية منذ العام 2014 إلى العام 2020.
في 30 نيسان 2005 خرج الجيش السوري من لبنان، ومنذ ذلك الحين تظن قوى “ثورة الارز ” أن انتفاضتها نجحت في إخراج الجيش السوري، وربما تتناسى أن قراراً دولياً كان صدر في ذلك الحين في هذا الشأن. المشهد اليوم لن يتكرر، فتحركات الشارع لن تفضي إلى نتيجة. النازحون السوريون باقون في لبنان حتى اشعار آخر ، فالمجتمع الدولي يقف سداً منيعاً في وجه عودتهم إلى ديارهم، وهذا ما يدركه الجميع من قوى محلية واقليمية وغربية حليفة أو على خصومة مع الدولة السورية.