إلى أعلى قرية في لبنان، بل إلى أعلى بلدة مأهولة في الشرق الأوسط، وصلنا، مجموعة من الإعلاميين من مختلف وسائل الإعلام، إلى بقاعكفرا، الضيعة التي دوّنت في 8 أيار عام 1828 ولادة يوسف بن أنطون بن زعرور مخلوف، الذي أضحى معروفًا بالقديس شريل، احتضنت جغرافيتها طفولته وشبابه، وشهدت سماؤها على ميله إلى الروحانية، ليمطر المؤمنين بعد وفاته بقليل، بأعاجيب، انطلقت من لبنان وتجاوزت الحدود والبحار. تجوّلنا في ضيعة القديس شربل، التي صنّفت قبل سنوات بلدة نموذجيّة، سرنا على نفس الأرصفة التاريخية التي وطأتها قدماه، وفي طريقنا من الباص إلى منزل رئيس اتحاد بلديات قضاء بشري رئيس بلدية بقاعكفرا ايلي مخلوف، حيث يقيم لنا استقبالًا وترويقة قرويّة، أطلّ قاطنو تلك البيوت الحجرية الأثرية ليرحبوا بزوارهم، بفيض من الكرم والأصالة، تجدهم يدعون الزائر إلى الضيافة في بيوتهم، ولا فرق إن كانوا على معرفة به أم لا، هنا حسن الضيافة، تقاليدُ لم تتمكّن “الحداثة” من تغييبها، وهنا نظافة الشوارع والأزقة والطرقات والجسور تخال معها أنّها منطقة غير مأهولة.
البلدة هي أيضًا مسقط رأس إعلاميات رائدات، ريما رحمة مخلوف، ماغي مخلوف وانطوانيت شليطا، يهب الأهالي لإلقاء التحيّة، وفي عيونهم نظرات الفخر بإعلاميات البلدة، يتبادلون سويًا أطراف الحديث، لدقائق كافية لتبيان مدى العلاقة المتينة التي تجمعهم. وبعد تناول أطايب الترويقة البلدية وفيها من كرم الضيافة ما يشبه تقاليد وعادات أهالي القرى،بدأت الرحلة في ربوع بلدة القديس شربل، في الكنيسة الأثرية حيث كان يصلّي، والتي بُنيت قبل ستمئة عام، وقع نظرنا في زاويتها على جرن المعموديّة حيث تعمّد شربل، وفي لحظة خشوع تفرضها رهبة المكان، تخال حجارة الكنيسة وأبوابها الخشبية العتيقة، تحدّثك عن أسرار قداسة لا يعلمها سوى الرب.
في كنيسة السيدة التي بُنيت فوق هذه الكنيسة، ألقت الإعلامية ريما رحمة مخلوف كلمة ترحيبة. بدوره مخلوف أكد دور الإعلام في تجسيد جمالية صورة بقاعكفرا وغيرها من البلدات المجاورة. الخوري ميلاد مخلوف عرض لتاريخ الكنيسة، وكيف شُيّدت في ستة أشهر فقط، وهي المهلة الفاصلة عن تساقط الثلوج في بلدة تلبس الرداء الأبيض مناصفة مع الأخضر سنويًّا، كونها على علو 1600 متر.
ولفت الأب مخلوف إلى الحاجة لترميم التصدّعات الظاهرة في أسقف الكنيسة وجدرانها، وهي عملية تحتاج إلى أيادٍ خيّرة. الفنان نقولا الأسطا الذي فاجأ الإعلاميين بحضوره ومشاركته الجولة منذ الإنطلاقة من بيروت، كانت له ترنيمة في كنيسة السيدة، فيها من روعة أدائه وصوته ما يشبه عظمة المكان.
في المنزل الذي عاش فيه القديس شربل، كانت الصلاة على نية خلاص لبنان، ولأّنه أتيح لنا أن تبارك بقداسته وروحانيته، كانت لكل منّا صلاته الخاصة وطلبه الذي حمله بقلبه إلى القديس شربل، وسلّمه إياه في بيته، ليحفظنا وعائلاتنا بشفاعته الدائمة، من كلّ شر، وربما كما قالت الإعلامية ريما رحمة “وجود كل واحد منّا في ضيعة القديس شربل ليس صدفة”.
ثم كانت زيارة إلى المغارة التي تنبع منها المياه العجائبية. انتقل بعدها الزائرون إلى حديقة مار جرجس في بشري على مشارف الوادي المقدّس، قبل المشي في ربوع غابة الأرز الدهريّة وكنيسة التجلّي في وسطها، لنستمتع بمشهدية آخّاذة، تعجز قواميسُ اللغات عن تجسيد جماليتها.
المحطّة الأخيرة، مأدبة غداء أقامها مخلوف على شرف الإعلاميين،وهدايا تذكارية من يوم سياحي لا يشبه سواه، في ثالوث القداسة والأصالة وعراقة التاريخ وجماليته، يصح معه ما قاله الراحل سعيد عقل “هنا تحت كلّ ترابه مفاتن مجد، هنا الله شرّع بابه وضمّك ضمّة وجْد،هنا جبلٌ لا الأساطير أشهى ولا الشمس أبهى …”.