يحتار اللبنانيون، وبالأخص المغتربين منهم، كيف يتعاملون مع وقائع الحرب الحقيقية، التي يعيش الجنوبيون مرارتها يوميًا، بل كل ساعة من ساعات النهار والليل. وسبب الحيرة هذه يعود في الأساس إلى التناقض الواضح، إن لم نقل الخلاف الظاهر في وجهات نظر الأميركيين والإسرائيليين بالنسبة إلى حربي تل ابيب في قطاع غزة وجنوب لبنان.
Advertisement
ففيما نسمع الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدّث، وإن عبر تسريبات تُنسب إلى مصادر مطلعة في البيت الأبيض، عن حلحلة في غزة وجنوب لبنان، نشهد حماوة في القصف الإسرائيلي، الذي يستهدف القرى الجنوبية على امتداد الخط الأزرق وصولًا إلى العمق الجنوبي، بالتزامن مع إعطاء رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو أوامره للجيش الإسرائيلي بتوسيع ضرباته على لبنان، مما يعني أن لبنان مقبل على صيف حار، وهذا ما سبق أن هدّد به أكثر من مسؤول إسرائيلي.
وما يمكن التوقف عنده أن الإسرائيليين عندما تحدّثوا عن صيف حار أشاروا إلى أن لبنان كله سيكون حارًا، ولم يكتفوا بالقول إن صيف الجنوب فقط سيكون حارًا. وهذا يعني أن الحرب بكل مفاعيلها ستطال كل لبنان، وإن لم تصل شرارات القذائف والصواريخ إلى عمق أعماق الداخل. وهذا ما يذهب إليه الفريق المعارض عندما يتهم “حزب الله” بتوريط كل لبنان بحرب ليس له فيها لا ناقة ولا جمل، خصوصًا أن أذى الحرب لا يقتصر على المناطق الجنوبية، بل يصل ضررها المعنوي إلى كل بيت من بيوت اللبنانيين حتى في اقصى أقاصي الشمال، باعتبار أن لبنان كل متكامل تمامًا كجسم الانسان غير المنفصلة وظيفة أعضائه عن بعضها البعض. فإذا مسّ الأذى أي عضو من هذه الأعضاء فإن الجسم كله يتأثر ويتفاعل مع الضرر، الذي لم يصب سوى جزء منه.
فاللبناني الذي يعيش في طرابلس وعكار والبترون وجونيه وعاليه والمختارة معني بما يتعرّض له الجنوب تمامًا كأهل ميس الجبل وحولا وراشيا الفخار وعيتا الشعب وعلما وكفركلا وكل القرى التي أصبحت هدفًا يوميًا للغارات الإسرائيلية الوحشية. وليس صحيحًا أن يُنقل مثلًا عن اللبنانيين الذين يعيشون بعيدين جغرافيًا عن الجنوب المشتعل قولهم “بطيخ يكسر بعضو”. فهذا القول المنسوب إلى غير أهل الجنوب من اللبنانيين فيه الكثير من التجنّي والتحامل، وفيه أيضًا الكثير من تشويه حقيقة الموقف اللبناني العام مما يتعرّض له أهل الجنوب الصابرون على بلواهم والعاضّون على جرحهم وهم كانوا في غنىً عن كل هذه المأساة، التي حلّت بهم من دون أن يؤخذ برأيهم عن “وحدة الساحات”، وعن ربط مصيرهم بمصير غيرهم، وهم الذين يحتاجون اليوم إلى من يساندهم ويشغل العدو عنهم.
وسبب حيرة اللبنانيين يعود في الأساس إلى هذا التناقض في المعايير والمقاييس بين الأميركيين والإسرائيليين من جهة، وبين محوري “الممانعة” و”المعارضة” في الداخل اللبناني من جهة أخرى. واستنادًا إلى نظرية وحدوية أعضاء جسم الانسان فإن لبنان يعيش حربًا كاملة الأوصاف في التبعات والمخاطر، مع نسب متفاوتة في درجات التأثير، باعتبار أن الجمرة لا تحرق سوى مكانها.
أما القول بأن وضع لبنان بكل ملفاته العالقة، وبالأخص الملف الرئاسي، غير متأثّر بالوضع المتفجّر في الجنوب، ففيه الكثير من تباين في وجهات نظر الأطراف السياسية المختلفة في الأساس على تحديد هوية لبنان قبل أن تختلف على تحديد سبل المعالجات. فما سمعه اللبنانيون من الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله من كلام ينفي فيه أي علاقة للحرب الدائرة في الجنوب بتأخير انتخاب رئيس جديد للجمهورية لم يمرّ مرور الكرام، خصوصًا عند الآخرين من الضفة الأخرى للوطن، الذين يرون أن هذه الحرب تجاوزت بمفاعيلها السلبية أي حديث عن انفراجات داخلية، وأعادت عقارب الساعة ثمانية أشهر إلى الوراء في حين أن لبنان يحتاج إلى “دفشة” إلى الأمام لكي يستعيض بعضًا مما خسره في الأوقات الضائعة، وفي حرب لا طائل منها سوى إدخال لبنان واللبنانيين في دوامة “المسار والمصير”.