هذا هو جوابي لمن يسألني لماذا لا أعود إلى لبنان

19 يوليو 2024
هذا هو جوابي لمن يسألني لماذا لا أعود إلى لبنان
اندريه قصاص

استباقًا لكل ما سيرد من ردود الفعل على ما سأورده ردًّا على من يلحّ عليّ بالعودة إلى ربوع الوطن، وأغلب نوايا هؤلاء بريئة وعفوية، أعود فأوكد ما سبق أن أشرت إليه أكثر من مرّة، سواء عبر هذه الزاوية اليومية في الموقع، الذي انتمي إليه مهنيًا منذ عشر سنوات من دون انقطاع، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أن الذين اضطّروا إلى الهجرية القسرية ويعيشون رغمًا عنهم خارج حدود الوطن لا يقّلون وطنية عن إخوانهم، الذين يعيشون ضمن جغرافية الـ 10452 كيلومترًا مربعًا، سواء أولئك الذين يؤمنون بأنهم يدافعون عن كل الوطن انطلاقًا من الجنوب، أو أولئك الذين يناضلون بطرق أخرى قد لا تقّل أهمية عن حاملي السلاح، الذي يُفترض ألا يكون إلا في أيدي القوى الشرعية وحدها دون سواها.

يكفي هؤلاء اللبنانيين أنهم يعانون كل يوم مرارة الغربة عن وطن الأباء والأجداد، وعن وطن يحنّون إليه في كل لحظة من لحظات غربتهم وهجرتهم.

صحيح أنهم موجودون بعيدًا عن وطنهم الأم الآف الأميال، ولكنهم في الحقيقة يعيشون فيه مثلهم مثل أي لبناني، سواء الذين لم تُتح لهم فرصة المغادرة أو أولئك الرافضين تركه أيًّا تكن الظروف الصعبة التي يعيشونها، وهي كثيرة ولا عدّ لها.

هم يتابعون ما يجري فيه لحظة بلحظة؛ يعيشون همومه ربما أكثر من كثير من لبنانيي الانتماء بالهوية فقط؛ يتابعون أخباره؛ يتقصّون الحقائق من مصادرها الصحيحة، وهم غير خاضعين للانتقائية في الخيارات الوجدانية.

لي صديق يعيش في لبنان، وهو بمثابة أخ لي، وقد أفنى عمره سعيًا وراء لقمة عيش شريفة، وأدّخر ما سعت إليه يداه من تحويشة هذا العمر في أحد المصارف عملًا بمقولة “خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، فطار “الأبيض” ولم يبق له سوى سواد الليالي و”المرمطة” و”الشحشطة”.

ولأنه تقدّم في السن، ولأن أيامه لم تكن مريحة بما يكفي كثرت عليه الأمراض الجسدية والنفسية، وهو بالكاد يستطيع أن يؤّمن ثمن الدواء. هو وحيد ويكاد يكون مقطوعًا من شجرة، أي أن لا سند له في آخرته ومرضه.

أصيب مؤخرًا بأزمة قلبية فلجأ إلى طبيب أشار عليه بضرورة إجرائه قسطلة لشرايين قلبه التعبة. ولولا المحبين، وهم كثر، لما استطاع أن يجري هذه العملية، التي استلزمت إدخال “راسور” لتوسعة الشريان الرئيسي للقلب. وكانت الكلفة بما يقارب الثلاثة الآف دولار، وقد استطاع تأمين المبلغ من أصدقاء ومحبي خير كثر، ولله الحمد.

ولكن، وبعد ثلاثة أشهر من إجرائه عملية القسطلة قصد الطبيب للمراجعة فتبين له بعد الفحص أن شريانيين رئيسيين يصلان القلب بالرأس “مسطمين”، وعليه إجراء عملية مستعجلة لاستبدالهما وإلا فإنه مهدّد في كل لحظة بـ جلطة دماغية”.

وهذه العملية لا يمكن إجراؤها إلا على مرحلتين، وكلفة كل عملية ستة الآف دولار أميركي نقدًّا وعدًّا، أي ما مجموعه أثنتا عشرة الآف دولار، وهو لا يملك من هذا المبلغ إلى ما ندر.

وبالطبع لم يلجأ إلى أصدقائه لأنه يعرف مسبقًا أن ليس في مقدورهم تأمين هذا المبلغ.

لجأ إلى الضمان الصحي فتبيّن له أن التغطية لا تشمل سوى ما تعترف به إدارة الضمان، أي أن تسعيرة الدولار لا تزال ثمانية الآف ليرة لكل دولار، أي من “الجمل دينتو”.

هذه هي حال صديقي المتروك لقدره ولرحمة ربه في بلد لا قيمة فيه للإنسان؛ وهذه هي حال كثيرين من اللبنانيين الذين يعيشون في بلد الصدفة، وفي بلد كل مريض فيه مشروع مقبرة.

وتسألوني بعد كل هذا لماذا لا أعود إلى وطن جعلوه مزرعة.