الأب الراعي يقرأ في مداخلة فياض:ماذا يفيد اللبنانيين إذا ربحوا الأرض كلها وخسروا الهوية والرسالة؟

19 يوليو 2024
الأب الراعي يقرأ في مداخلة فياض:ماذا يفيد اللبنانيين إذا ربحوا الأرض كلها وخسروا الهوية والرسالة؟


لا شكّ أن عملية”طوفان الاقصى” وما تلاها من تطورات دولية وإقليمية، فتحت باب النقاش أمام تصورات اليوم التالي للحرب على غزّة ليس على المستوى الفلسطيني فحسب انما على مستوى التخطيط والتفكير لمستقبل المنطقة والنظام الإقليمي فيها. وبحسب النائب علي فياض الذي قدم مداخلة في مؤتمر تجدد للوطن تحت عنوان:«من لبنان الساحة … الى لبنان الوطن»، فإن موازين القوى تتغير في ما بينها بين مرحلة وأخرى، وتتأرجح العلاقات القائمة بينها، بين الاضطراب والاستقرار، لكن رغم كل ذلك، هي دول وقوى باقية ومستمرة، فإما أن تصطرع فيما بينها إلى ما لا نهاية وإما أن تنظم علاقاتها وخلافاتها في ما بينها.لكنه على اللبنانيين أن يواجهوا الأسئلة الحقيقية والتي تتصل بالأسباب العميقة لعدم استقرار كيانهم الصغير، وتحوّل هذا اللا استقرار إلى صفة ملازمة لحياتهم السياسية وشؤونهم الدولتية والمجتمعية. فتأخير المعالجات العميقة أو الاقتصار على المعالجات العائمة، فاقم من حجم التعقيدات وعمَّق من حقيقة الأزمات القائمة، ما ينذر فعلاً باحتمال خطر الصوملة: هيكل فارغ للدولة ومجتمع متفسِّخ، وإيقاظ لطروحات ودعوات كنا نعتقد أنها انتهت مع انتهاء الحرب الأهلية، كالفدرلة والتقسيم وغيرها. ولذلك فإن البحث في استقرار الكيان يضعنا أمام سؤالين كبيرين: سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة. فالأول يتعلق بالحاجة إلى الإصلاح البنيوي بالمعنى العميق للكلمة، والثاني يتعلق بالحاجة إلى المقاومة. وإن كلا الموضوعين يتصلان بالتكوين الميثاقي للكيان، وبالحاجة الحيوية إلى منهجية تبادل الهواجس والضمانات بين المكوِّنات عند هذا المفترق التاريخي الانتقالي الذي يمرُّ به البلد، في ظل هذه البيئة الإقليمية المتحوِّلة. ويبقى أن النقاش حول هذه المداخلة، أفرز قراءات عديدة ومقاربات مختلفة حول هواجس الطوائف والضمانات ومفهوم الدولة والنظام السياسي وهوية لبنان.

الحلقة التاسعة: مساهمة أستاذ الفلسفة السياسية الأب البرفسور باسم الراعي في مناقشة مداخلة فياض

يقول أستاذ الفلسفة السياسية الأب البرفسور باسم الراعي: لا بد من التنويه بداية بالنقاش الذي فتحته مداخلة الدكتور فياض في مؤتمر “حركة التجدّد الوطني” بعنوان:«من لبنان الساحة … الى لبنان الوطن»، وخصوصًا أن ما أتى به الدكتور فياض وضعه في إطار مسعاه إلى تعبئة النقاط الثلاث في العنوان التي تفصل بين الـ “من” و”إلى”، وذلك بالاستعانة بما يملأ سياق هذه النقاط، وهو الجيوسياسي ومكمّله الجيواستراتيجي. هذا المسعى بحد ذاته هو مسعى حصيفًا في المقاربة، لكن يبقى السؤال: ماذا بعد اليوم التالي؟

تروم هذه القراءة، بحسب الراعي، النقاش عن اليوم التالي بحوار مع مقاربة الدكتور فياض، بعيدًا عن أي موقف سياسي أو التزام بأيٍّ من المواقف السياسية، إنما من منطلق همّ وطني يعني كل لبناني صميم، إذا كان اليوم التالي هو يوم تشكلّ جديد للبنان كما يرى الدكتور فياض.

لكن الغوص في طيات هذه المقاربة يظهر، بحسب الراعي، أنها تنطوي على “طرح فاصل”، وهو طرح يشدّ بالجيوسياسي والجيواستراتيجي إلى خلاصات، تفيد ما يتوخاه الدكتور فياض منهما على صعيد الإشكالية الداخلية في لبنان في علاقة مباشرة وصريحة في نصه بين الدولة والمقاومة، بحيث أن الغرض يتجلى أشبه بصورة تتألف من دوائر متلاصقة، تضيق تدريجيًا لتصب في وضع دائرة المركز محور الاهتمام. لكن المعادلة التي يرسيها هنا، تكرّس من جديد جدلية الداخل والخارج، التي أنهكت لبنان عبر الزمن، على تقعيدات حتمية تاريخية جيوسياسية وجيواستارتيجية.
يستوقف القارئ هنا أن هذه المعادلة تأتي تحت راية حزب الله التي تحمل عنوان “ثورة”. والمعلوم أن من طبيعة الثورة أنها تنشد استقلال الإرادة الوطنية التامة، بحيث لا تسامح أي هيمنة على السيادة المطلقة لشعب الثورة أو لبلدها. فكيف نوفّق إذًا بين مطلقية تحرير إرادة الشعوب ورهن لبنان للمعادلة الجيوسياسية والجيواستراتيجية؟ لو كان الكلام على تأثير، فالأمر يكون مفهومًا، إذ أيّ بلد ليس بمنأى عن ذلك. لكن يبدو مما أتى في النص، أن لبنان ملحق بشكل شبه كامل، لا بل حتمي، بهذه المعادلة: “إن هذا العامل الإقليمي الجيواستراتيجي، هو هذا الواقع الصلب والحقائق الكبرى والمعطيات القاهرة، التي تشكل البيئة الإقليمية التي تحيط بلبنان”. “واقع، وصلب وقاهر” يعني أننا مجروفون بحتمية تاريخية ولو بقيت عند الدكتور فياض وليدة “الفعل السياسي”.

ويتابع الراعي: إذًا نحن مع الدكتور فياض من جديد أمام إشكالية أساسية: هل يبقى من حدود في العلاقة بين الداخل والخارج إذا غيّبت الإرادة الوطنية المبنية على حق الاستقلال الذاتي للشعوب وتقرير مصيرها والتعهدات الوطنية؟ مع حفظ الواقعية السياسة، لكن إذا رُهنت المسألة بالواقعية السياسية وحدها، أي بالتسليم بما هو قائم، فهذا يعني أن هناك معضلة تعتري الفهم الحقيقي لفلسفة الدولة بمفهومها الحديث؟ هذه إشكالية يأتي الكلام عليها.

ووفق الأب الراعي، يستحق ما أثاره الدكتور فياض ملاقته لا في منتصف الطريق فحسب، بل في السير معًا في التفكير إلى نهاية الطريق. ذلك أن وراء العرض المنهجي الذي اتبعه، والمحق على ما يؤسس عليه، إلا أنه أشار بذاته إلى أن هذه التحولات لا بد من أن تثير نقاشًا داخليًا، أولاً لجهة ما نحن سائرون إليه من معادلة تعزّز وجودها أكثر فأكثر على المستوى الإقليمي، ولا مناص من التفكير في الأمر على أساس وقعها على الواقع الخاص بكل “جغرافيا” من جغرافيا المحور؛ ثانيًا، لجهة أنّ استقرار هذه المعادلة في لبنان يتطلب الإحاطة بهواجس المجموعات اللبنانية مع تغيير المعادلات بفرز موازين قوى جديدة تستدعي “تفاهمات” جديدة مبنية على أساس الحتمية التي تسيّر التاريخ نحو تحقق شكل محدّد من أشكال التحوّل التاريخي. تبرز هنا أيضاً إشكالية تقف بين الإطمئنان لجهة النهاية السعيدة إقليميًا والقلق الداخلي الذي تثيره الهواجس وفق الدكتور فياض، وكيفية التوفيق بينهما؟ بصيغة أخرى: كيف السبيل إلى تهيئة جو داخلي، شروطُ فَرضه غير متوافرة، ليأتي القبول بالتحول الحاصل مسألة توافقية؟

يحضر الجواب الآتي تلقائيًا: هل يأتي ذلك من خارج الميثاق والميثاقية ؟ لا يفيد التاريخ اللبناني بغير ذلك، ويعود حتى إلى ما قبل 1943 إلى زمن القائمقامية والمتصرفية، إذ إن الميثاقية تحكم لبنان، بتأييد إقليمي ودولي، إلا إذا كان بالإمكان تغيير قواعد التاريخ؟! وإذا ما كان هناك شروط إمكان لذلك؟

ويضيف الراعي: يستحق التوقف مرة جديدة عند الأمر الذي أثاره الدكتور فياض في هذا المجال، لا بهدف تقديم طرح مضاد، بل لإطلاق حوار في الهاجس الذي يقف وراء النص، لأن طبيعة لبنان الميثاقية التي من المفترض أن تكون في أصل كل توافق، ويقاس عليها كل تحول وتبنى عليها أي مسؤولية وطنية، لا تقبل باستبعاد هاجس أي مكوّن أو جماعة أو حزب، لأن ما يصيب أحد من هؤلاء، يصيب كلّ لبنان مباشرة أو بشكل غير مباشر. لذا لا بد من تفكّر هادئ بالدائرة المحورية في نص الدكتور فياض، لنخرج معافين لبنانيًا. وبهذا ندخل إلى الهواجس التي أتى عليها الدكتور فياض في مداخلته، حين صنّفها على أساس هواجس الدور وهواجس الوجود. الأهم هو الهاجس الوجودي على اعتبار أن هاجس الدور سياسي عنده. المفارقة هنا أنه يعتبر أن الهاجس الوجودي الذين يخص به المكونين المسيحي والشيعي يستدعي “مقاربة وأدوات من خارج المنطق الطبيعي للدولة”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أولاً، هل حقيقة أن الطوائف الأخرى على هذا الارتياح وجوديًا إذا كانت مطمئنة سياسيًا؟ ثانيًا، الفارق بين الهاجس المسيحي والهاجس الشيعي كما أتى في النص أن الأول يشدّ بالوجود إلى الداخل: “الصلاحيات والديمغرافيا”، في حين أن الثاني يشد بالوجود إلى الخارج: “مواجهة الكيان الصهيوني”، فهل تخلى الدكتور فياض عن أهم قضية رفعها الشيعة، وهي لا تخصهم وحدهم، بل هي قيمة إنسانية رفيعة: “الحرمان” الناتج من الظلم والذي يفتح باب الصراع من أجل العدالة مدخلاً لبناء الدولة العادلة؟ ومن ثم هل يتوافق القول إن المسيحيين تحلّ هواجسهم “خارج المنطق الطبيعي للدولة” بعد صراعهم منذ القرن السادس عشر من أجل قيام دولة تحمي حريتهم التي هي وجودهم الفعلي؟ من ثمّ هل قضية الديمغرافيا، رغم أهميتها، هي التي تحكم المعادلة أم تعهدات اللبنانيين الذين أوقفوا العدّ لصالح الشراكة؟ وهل التلويح بمسألة العدّد عند كل منعطف أو كل أزمة فيه مصلحة لأي طرف من الأطراف اللبنانية إذا اختل واحد من أعمدة التكوين الميثاقي للبنان؟ وهل يبقى عندها لبنان حقًا لبنان الكيان؟ الكل صار يدرك بعد تجربة الحرب اللبنانية أن سياسة التخويف لا تفيد بشيء، سوى تعزيز النعرات، والتقليل من الثقة وزرع الأحقاد المتبادلة.

من هنا، يعتبرالأب الراعي التمسّك باتفاق الطائف لا ضمانة للطوائف القلقة سياسيًا فحسب، بل للقلقة وجوديًا أيضًا، لأنه صياغة اللبنانيين معًا لصون عيشهم المشترك. وهذا الدستور ليس مجرد اتفاق مرحلي أو هو فتح باب لمرحلة انتقالية، إنما هو تعبير صريح عن مسار تاريخي ميثاقي، يكتب له التاريخ مرة تلوى الأخرى، ولو عبر الأزمات، أن يتبلور تبلورًا من داخله، ولو أتى بمساعدة من الخارج وتأثيره. وكل مؤمن بهذه الجدلية التاريخية في تبلّور الهويات الوطنية، يجد أن الطائف يمثل مرحلة تبلور في مسار تبلور أعمٍّ تحقيقًا للفكرة اللبنانية. ومن الجميل هنا أن نذكّر بما قاله الإمام محمد مهدي شمس الدين في هذا السياق عن الصيغة اللبنانية: “في لبنان، لا سبيل للتساؤل أو التفكير في أصل الصيغة. الصيغة هذه هي وكل محاولة لمن يريد إثراءها أو تحسينها أو حمايتها، تكون مشكورة (…) لكن مع رفض كلّ محاولة تهدف إلى خلق صيغة أخرى” (الوطن الكويتية15/2/1994). إذا كانت هذه حقيقة الطائف، فالميثاق الناتج منها يصير هو الأفق التأويلي الذي لا بد من الركون إليه لمعالجة قضية الهواجس.

في ضوء الطائف وعلى الأرضية الميثاقية التاريخية التي يقف عليها، تفهم،وفق قراءة الاب الراعي، حقيقة الصيغة اللبنانية التي لا يستقيم فهمها على قاعدة توزان القوى والمصالح فحسب، بل على قاعدة يفقهها اللاعبون السياسيون، ومن الممكن صياغتها بهذا المبدأ: “اللعب على أرض الصيغة، لكن تحت سقف الميثاق”. والاعتقاد بادٍ أن الدكتور فياض يعي تمامًا حدود هذا المبدأ عندما يقول: “[الصيغة] قوية جدًا إذ لا يستطيع أي طرف أو تحالف أطراف أن يعدِّل بهذه الصيغة أو أن يطيح بمقتضياتها الأساسية. ولا تقتصر هذه الصيغة اللبنانية على ما يتصل بالمقتضيات الميثاقية الداخلية التي تنظم علاقة اللبنانيين ببعضهم البعض…”. على هذا الأساس يطرح السؤال: هل بالإمكان الوصول إلى الدائرة المحور في طرح الدكتور فياض من خارج مقتضيات الصيغة الأساسية أي الميثاق؟

يدخلنا مبدأ اللعب على أرض الصيغة تحت سقف الميثاق إلى بعدٍ آخر، في مداخلة الدكتور فياض، وهو مسألة الدولة والإشكالية المتصلة بالدائرة المحورية في الصورة التي أشرنا إليها أي مسألة المقاومة. يبدو واضحًا من نص الدكتور فياض، كما يقول البروفسور الراعي، ربط باب الولوج إلى حل هذه الإشكالية بمسألتين اثنتين: الأولى، متصلة بنوازع الصيغة: “خلافات اللبنانيين الحادة، منذ عام 2005 وصدور القرار 1559، إنما تتصل بهذا البعد، أكثر من صلتها بالبعد الداخلي الذي يتصل بالنظام السياسي والمؤسسات الدستورية.” أي عودة إلى الخارج على الداخل التي تستدعي خارجًا على داخلٍ مقابل؛ الثانية، متصلة بأيديولوجيا الدولة: “لكن البحث في استقرار الكيان يضعنا أمام سؤالين كبيرين: سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة. الأول يتعلق بالحاجة إلى الإصلاح البنيوي بالمعنى العميق للكلمة، والثاني يتعلق بالحاجة إلى المقاومة. وإن كلا الموضوعين يتصلان بالتكوين الميثاقي للكيان”. والسؤال الذي يطرح: هل من حل لهذه الإشكالية ببعديها خارج الميثاقية اللبنانية؟ يشير نص الدكتور فياض، حسب الراعي إلى حيرة محسوم جوابها : إما الفرض أو الميثاق؟ لكن هل فرص الفرض متاحة؟ إن فطنة الدكتور فياض بليغة تاريخيًا في سوق الإجابة، حيث يوضح أن المعادلة الإقليمية غير محسومة النتائج بعد، ولو أن التحليل الجيوسياسي في نصه يشير إلى اتجاه محسومٍ. هذا يعني أن المتوافر الآن هي الميثاقية. والحكمة تقول في ضوء ذلك بعدم الاعتداد بأي خارج فرضًا لمسار ينضج حلاًّ للإشكالية.
تبقى “أيديولوجيا الميثاقية اللبنانية” هي المتاحة. فلبنان لم يتبن في الأصل أي أيديولوجيا، بل فضل المبدأ الليبرالي ، لا بالمعنى الاقتصادي فحسب، بل بمعنى ليبرالية التسامح عقيدة ديمقراطية للدولة، حتى لا يضيق أفق عقل الدولة في استيعاب القضايا المطروحة، فيحلّ العنف. هذه هي قوة الصيغة اللبنانية لا هشاشتها، إنها بذلك تحمل أبداعًا تكوينيًا يساعد إذا ما استلهمت في حل المسائل.

بناءً على ما تقدّم، تُقارَب مقولة الدولة الانتقالية. وللدقة، لا بد من استعادة المقطع كما أتى الكلام عليه في هذا الأمر: ” لا نريد استخدام مصطلحات قد تدعو للقلق فتثير أسئلة ومخاوف والتباسات، كالقول إن دولة المرحلة الانتقالية هي دولة انتقالية يجب العمل على تطويرها إلى دولة نهائية أي دولة مستقرة.” إذًا الكلام على دولة المرحلة الانتقالية لا يعني، وفق البروفسور الراعي أننا في دولة انتقالية. لتؤخذ الجملة أولاً في الإطار الذي أتت فيه في متن النص بعد التذكير بالمادة 95 من الدستور، لتتوسط الكلام بين الصيغة وإشكالية ما بعد 2005، والقرار 1995، وهواجس الطوائف، من ثم ربط هذا الكلام “بمقتضيات الدولة في بعديها الداخلي والخارجي”. إن صفة الانتقالية كما أتت في النص لها بعد عميق كوسيلة تؤسس لخلق مسار وعي مطرد لاستيعاب الإشكالية الأساسية في التكامل بين الدولة والمقاومة. والكلام للدكتور فياض: “إنني من الذين يعتقدون بأن الطبيعة الانتقالية إنما تتصل بكل ما يرتبط بمقتضيات الدولة في بعديها الداخلي والخارجي، أي النظام السياسي والموقع الجيوستراتيجي.” الانتقالية هي إذًا صفة لعملية الملاءمة. لا بد هنا من تسجيل تقدم في المقاربة السياسية، بعدما كان يحكى في الماضي عن تثوير الواقع اللبناني، إذ بالانتقالية تقترب من الدعوة التي يطلقها الدكتور فياض إلى التوافقية. يبدو هذا تقدّمًا في الوعي لصالح الميثاقية أكثر. هل يمكن القول إنها لبننة إضافية لعقل حزب الله السياسي؟ هذا طبعًا رهن الفعل السياسي المستقبلي، يقول الأب الراعي.

لكن إذا أخذ بالجزء الآخر من كلام الدكتور فياض عن الانتقالية، في أن دولة المرحلة الانتقالية ليست دولة إنتقالية، حين استطرد : “وإن جاز من منظور التحليل الدستوري والسياسي استخدام هذه المصطلحات”، فهل يترك الدكتور فياض الاحتمال مفتوحًا بسبب تطورات التحولات الإقليمية؟ الاحتمالية هنا مشروعة، بما أن الدكتور فياض نفسه يعتبر التحولات الإقليمية والدولية في مخاض، ولا موعد لولادة محددة بعد، و”اللا استقرار” هو سمة المرحلة، وبأن “واقع لبنان انتقالي” بما أن العالم كلّه في حال انتقال. يطرح الدكتور فياض احتمالات معروضة يوردها في نصّه، لكنه يستقر على خاتمة ولو مفتوحة الأفق تقول: “لقد بتنا أمام واقع إقليمي، تبدو فيه إسرائيل أكثر ضعفًا وأميركا أقل تأثيرًا ومحور المقاومة أشد فاعلية.” يحيلنا النص مجدّدًا، كما يقول الراعي، إلى الدائرة المحور في مداخلته، ذلك أنه بعد هذه الخاتمة، يعود إلى مسألة الداخل مباشرة بعد تعداد التحديات الداخلية التي يواجهها لبنان ليخلص إلى: “يفتقد لبنان الوسيلة لحماية مصالحه وامتلاك الأوراق الضاغطة للمعالجة بفعالية، خارج معادلة المقاومة. إن الوظيفة اللبنانية للمقاومة [….] تندرج في إطار الثوابت، بالمقارنة مع البيئة الإقليمية التي تفرض أدوارًا متغيِّرة تبعًا للظروف والمخاطر والتحديات.”

إن الاستشهاد الأخير، يوفّر، على هذه القراءة، بحسب الأب الراعي، عناء الغوص في التحليل الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي سمته الأساسية “الاحتمالية” ولو أن قواعد الصراع ثابتة وواضحة المعالم. وهذا يعطي هذه القراءة حقها أيضًا بأن تعود من جديد إلى صورة الدائرة المحور في نص الدكتور فياض في البحث أمام هذه الاحتمالية عن “أهمية الانسجام والتكامل بين الدولة والمقاومة، مع إبقاء مسافة فاصلة بينهما إذ لا تصل العلاقة بينهما إلى حد المطابقة التي تلغي الهوامش التي تخدم المصالح وتراعي الخصوصيات اللبنانية.” والسؤال هنا: إذا كان أحد طرفي هذا الانسجام مشروطًا بسمة الاحتمال، ووجوده لا يملك بعد صيغة لهذا الانسجام، ألا يستدعي ذلك التمسك بما هو ثابت تاريخيًا وميثاقيًا ودستوريًا؟ ليس الدكتور فياض ببعيد عن هذا الهاجس، بما أنه يبحث عن صيغةِ ملاءمةٍ بين الاثنين، لكن يتطلب ذلك ملاقاته بما دعى إليه، ولا أحد يخالفه في ذلك، من أن الـ “دولة لا تقتصر على هيكل الدولة عبر مؤسساتها بل أيضاً على قيم التفكير الدولتي.”

في المحصلة، يسأل الأب الراعي، لما الحاجة إلى التمسك بالاحتمالي إذا كان لنا ما نسند إليه رأسنا “أننا أبناء الأرض” وهل من يعرف أرضه أكثر من ابنائها؟ والأرض كما هو معلوم في علم السياسة هي شرط أساسي من شروط قيام الدولة، لأن فيها التاريخ، وعليها المؤسسة ومن أجلها الفعل السياسي. فماذا يفيد اللبنانيين إذا ربحوا الأرض كلها وخسروا أرضهم المشتركة، لا بالمعنى المادي فسحب، بل بمعنى القاعدة والمنطلق أي الهوية والرسالة؟ في هذه الحال لا بد للجيوسياسي والجيواستراتيجي أن يوظفا من أجل هذه الأرض، فبدل أن نشد الداخل إلى الخارج، لما لا نشد الخارج ليكون في خدمة الداخل، ألا يكون لنا في ذلك نصيبًا أفضلاً بين الشعوب والأمم؟