جريمة عصر الرابع من آب 2020 بأهوالها وضحاياها المدمّرة بشرًا وحجرًا، ليست فقط ما يؤلم اللبنانيين، لاسيّما ذوي الضحايا، بل ما تلاها من عراقيل وألغام زُرعت على طول درب الحق والحقيقة، وحالت بعد أربع سنوات على التفجير، دون كشف المجرمين الضالعين بأكبر الانفجارات غير النووية في العالم، ودون محاسبة المقصّرين.
المفارقة أنّ التحقيقَ بالتفجير الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصًا وتسبّب بسقوط 6500 جريح، معلّقٌ، ليس بفعل الضغوط السياسية وحدها، بل جرّاء انقسامات قضائيّة، ظهرت إلى العلن، لتكشف عمق الأزمة التي يواجهها الجسم القضائي في لبنان. وأمام المشهدّية المؤلمة، هل ما زال بالامكان معرفة حقيقة تفجير مرفأ بيروت، ومن ثمّ تحقيق العدالة على أرض الواقع، أمّ أن الحقيقة طُمست إلى الأبد، ولم يعد أمام أهالي الضحايا سوى عدالة السماء؟ما الذي يعيد التحقيق إلى مساره القضائي؟ وهل يتحقق ذلك بتعيين قاض جديد؟
“العودة إلى القانون. وحده القانون، كفيل باطلاق التحقيق من جديد، تحرروا من السياسة وطبّقوا القانون” يقول مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي لـ “لبنان 24” .
وعن كيفية مواجهة دعاوى كف يد القاضي بيطار يوضح “تُحل في المطبخ الداخلي داخل البيت القضائي، فالحلول متاحة، ويعرفها كل من يعمل في الشأن القضائي. لكن المهم توافر القرار لدى كلّ المعنيين بالملف، من سياسيين وقضاة، بإبعاد السياسة وتطبيق القانون. بتعبير أوضح، إذا تدخل السياسي لا يفترض بالقاضي أن يصغي، لاسيّما وأنّ الملف قضائي، والتعامل معه يكون وفق ما يفرض القانون”.
الضغوط السياسية ليست وحدها المسؤولة عن إيصال التحقيق إلى طريق مسدود، هناك ثغرات قضائيّة، انعكست في صراع قضائي لم تشهده السلطة القضائية من قبل، تمظهر بشكل جلي بين القاضي المكلّف بالتحقيق طارق بيطار والنائب العام التمييزي السابق القاضي غسان عويدات الذي اتخذ قراراً بإطلاق سراح جميع الموقوفين بالملف، ولا صلاحية له بذلك، وفق ماضي “لو طَبّق القانون لما اتخذ ذاك القرار، فالقانون سقف للجميع، يمنح حلولًا أو يوحي بها. لكن كل ما يطرحونه من معالجات في الوقت الراهن بعيدة كل البعد عن القانون، والانقسامات العلنيّة التي شهدناها في السلطة القضائيّة مؤسفة وغير مسبوقة. هناك قاعدة مفادها أنّ القضاء هو الصامت الكبر، بمعنى عدم جواز كشف ما يحصل في التحقيق، ولكن هذه القاعدة لم تُحترم في قضية المرفأ، وهنا إشكالية”.
“القضية لا تموت بمرور الزمن” يؤكد ماضي، أمّا التحقيق الدولي فغير ممكن بعد مرور أربع سنوات على الانفجار “لاسيّما وأنّ معالم الجريمة قد ضاعت. ولو أراد المجتمع الدولي قيام تحقيق دولي، لكان لجأ ممثلوه إلى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بذلك، إسوة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري”.
المسار القضائي: قاضيان ودعاوى كف يد
غداة التفجير، عيّنت الحكومة القاضي فادي صوان للتحقيق في أسباب الانفجار، وفي العاشر من كانون الأول 2020، ادّعى على رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين بتهمة “الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وجرح مئات الأشخاص”. تمّت تنحية صوان في 18 شباط 2021، بعد نحو 4 أشهر من تعيينه، بسبب دعاوى الارتياب المشروع المقدّمة بحقه. وعُين القاضي طارق بيطار خلفًا له. أصرّ الأخير على استجواب دياب في الثاني من تمّوز2021، مطلقًا مسار الادعاء على مسؤولين أمنيين وعسكريين، ووزراء سابقين، هم علي حسن خليل غازي زعيتر نهاد المشنوق ويوسف فنيانوس، ولكنّ الحصانة النيابية لم تُرفع عن نواب شغلوا مناصب وزارية، ولم تمنح وزارة الداخلية إذنًا لاستجواب قادة أمنيين. ثم لاحقت المحقق العدلي دعاوى كف يد، تقدّم بها مسؤولون مدّعى عليهم، على اعتبار أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المرجع لمحاكمتهم. رفضت الغرفة الأولى لدى محكمة التمييز المدنية في بيروت طلب عزل البيطار، كان ذلك في 14 تشرين الأول 2021. بالمقابل خرج مناصرو الثنائي الشيعي بتظاهرات، متهمين البيطار بتسييس التحقيق. بالمحصلة، تمّ تعليق التحقيق 13 شهرًا، إلى أنّ أعلن بيطار في 23 كانون الثاني 2023، استئناف تحقيقاته، وقرر إخلاء سبيل خمسة موقوفين من أصل 17، ومنعهم من السفر، بينهم عامل سوري ومسؤولان سابقان في المرفأ، كما ادّعى على ثمانية أشخاص جدد، بينهم النائب العام التمييزي القاضي عويدات، محدّدًا مواعيد لاستجوابهم. وفي اليوم التالي، أعلن عويدات رفض قرارات بيطار، وادّعى عليه “على خلفية التمرّد على القضاء واغتصاب السلطة” وأصدر منع سفر بحقّه. كما قرر عويدات إطلاق سراح جميع الموقوفين في القضية. ومنذ ذاك الحين والتحقيق معلّق ومعه العدالة الموعودة.
في الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت ومعه نصف العاصمة، وما خلّفه من مآسي ودمار، تبقى أسئلة اليوم الأول بلا أجوبة: لماذا وصلت مادة النيترات إلى بيروت، ولماذا ابقيت في المرفأ طيلة سبع سنوات، من فجّرها، وكيف، بالحريق أم بصاعق خارجي، وهل من أياد اسرائيلية خلف الجريمة، من أراد إخفاء الحقيقة، ولماذا امتنعوا عن تزويد لبنان بصور الاقمار الاصطناعية؟ لغز عصر الرابع من آب 2020، وما سبقه وتلاه، من تحضير للجريمة وطمس للمعالم، برسم الزمن الآتي، والحقيقة لا بدّ أن تظهر، ولو بعد الحين، ومعها العدالة.