الصايغ يقرأ في مفهوم الردع.. سقط بمجرد فتح معركة الإسناد

19 أغسطس 2024
الصايغ يقرأ في مفهوم الردع.. سقط بمجرد فتح معركة الإسناد


نظرية الردع هي إحدى نظريات إدارة الصراع التي تستند أساساً على الأدوات العسكرية، وبات مصطلح إستراتيجية الردع من المصطلحات شائعة الاستخدام سواء في مجال التخطيط العسكري أو العلاقات الدولية.

يُعرّف جي. سي. ويلي JC Wylie الردع وفقاً لرؤية منع استخدام القوة العسكرية على أنه “إجراءات لمنع الحروب بدلاً من تنفيذها، باستخدام الوسائل النفسية بدلاً من الوسائل المادية، إذ ان قدرة الردع تعزّز الدفاع والعكس بالعكس”. ويعتبر توماس شللنغ Thomas Shelling أن “الفرق بين الهجوم والردع هو الفرق بين الاعتداء والتخويف بالاعتداء، وهو أيضاً الفرق بين الغزو والاحتلال من جهة مثلاً، والمساومة من جهة أخرى”. ويقول خليل حسين”ترتكز نظرية الردع في أبسط أوجهها على التهديد التالي، الذي يهدف إلى ردع دولة ما عن العدوان؛ بتعبير آخر، هو نوع من الردع في الاستراتيجية العسكرية”، فيعتبرها أداة للاستراتيجية العسكرية تقوم على التهديد لمنع العدوان.

إذن يمكن تعريف مفهوم الردع بأنه استخدام تهديدات أحد الأطراف من أجل إقناع طرف آخر بالامتناع عن الشروع في بعض الإجراءات، ويعتبر التهديد بمثابة رادع إلى الحد الذي يقنع به هدفه بعدم تنفيذ الإجراء المقصود بسبب التكاليف والخسائر التي سيتكبدها هذا الهدف. وفي مجال الأمن الدولي، تشير سياسة الردع عمومًا إلى تهديدات الانتقام العسكري التي يوجهها قادة إحدى الدول إلى قادة دولة أخرى في محاولة لمنع الدولة الأخرى من اللجوء إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية في مواجهة دولتها لأهداف سياسية.

ويشير نجاح الردع من الناحية العسكرية إلى منع قادة الدول من إصدار تهديدات أو إجراءات عسكرية تصعد التعاون الدبلوماسي والعسكري في أوقات السلم إلى أزمة أو مواجهة عسكرية تهدد بالصراع المسلح وربما الحرب. غير أن منع أزمات الحروب ليس هو الهدف الوحيد للردع. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون الدول المدافعة قادرة على مقاومة المطالب السياسية والعسكرية للدولة المهاجمة المحتملة. إذا اجتُنب النزاع المسلح بسعر تنازلات دبلوماسية إلى الحد الأقصى لمطالب الدولة المهاجمة المحتملة تحت تهديد الحرب، فلا يمكن القول بأن الردع قد نجح.

منذ بدايات عمله المقاوم ضد اسرائيل، حاول حزب الله الوصول إلى مستويات متعادلة في الردع. وشكل تفاهم تموز 1993 ونيسان 1996 بداية لتثبيت معادلة ردعية تحمي المدنيين بدرجة أساسية. ومع انتهاء حرب عام 2006 كانت قد ترسخت منظومة ردعية لدى المقاومة كسرت المعتقدات الإسرائيلية العسكرية والسياسية والنفسية حول منطلقات الردع. واليوم يرى حزب الله إن واحدة من اهم إنجازات فتح جبهة المقاومة في جنوب لبنان الداعمة للمقاومة الفلسطينية في غزة، هي تثبيت موازين الردع، ‏وتثبيت أن لبنان لديه قوة رادعة حقيقية (بعكس تحليلات البعض من أن معادلات الردع هي فقط لما قبل معركة طوفان الأقصى).

بالاستناد إلى ذلك يستضيف “لبنان 24” تباعاً أصحاب رأي يعبرون عن اتجاهات سياسية مختلفة لمناقشة استراتيجية الردع.

الحلقة الأولى مع عضو كتلة “حزب الكتائب اللبنانية” النائب سليم الصايغ.

يقول الصايغ:إن تحديد مفهوم الردع واضح في العلاقات الدولية وفي الاستراتيجية العامة. اذ هو بناء القناعة عند العدو المحتمل أن لا إمكانية للربح له في أي عمل عدائي قد يقوم به. هذا الربح قد يكون عملاً عسكرياً كاسحاً أو عملاً محدداً لإخضاع إرادة الآخر في تحقيق هدفاً محدداً يعلن عنه مسبقا. عندما يسقط هذا الاعتقاد، نعم الاعتقاد، يسقط الردع.

ويتابع الصايغ : نحن إذا أمام عقيدة قوامها ثلاث ركائز: الاولى هي القوة المادية الفعلية والثانية هي الارادة السياسية لاستعمال القوة والثالثة هي سيطرة المنطق الواحد واللغة الواحدة على لعبة الردع. ان ركيزة “القدرة” قائمة على إمكانية معاقبة العدو المحتمل وتكبيده كلفة تفوق قدرته على التحمل. هكذا إذا ما غامر أو أخطأ في الحساب يكون أمام استحالة تحقيق أهدافه والانتصار لأنه ستتم مواجهته بقوة نارية لا يستطيع تحملها. إن امتلاك هذه القدرة يكون عبر حشد أسلحة متنوعة تلبي كافة مستويات النزاع المسلح فيعالج كل مستوى تهديد بالسلاح المناسب دون الذهاب إلى الحرب المطلقة حيث نقطة اللارجعة في التصعيد. هذه الأسلحة تكون كافية لتحمل الضربة العدوة الأولى والرد بضربة بنفس القوة أو أكبر. هذا الأمر ليس مرتبطاً بميزان القوة على الرغم من أهميته بقدر ما هو مرتبط بميزان الأضرار الناتجة عن استعمال القوة. أما الركيزة الثانية فهي الارادة السياسية. يتم اكتشاف هذه الارادة بمختلف الظروف المحيطة بالقرار كما بالعامل الداخلي وتماسك الموقف تاريخيا وتطوره وطبيعة التهديد واحتساب مدى تحمل المخاطر والخسائر من جراء استعمال القوة هجوما او دفاعا أي كلفة الرشقة الاولى أو ردة الفعل عليها. أما الركيزة الثالثة فهي العقلنة. بمعنى أنه على الردع أن يكون”منطقياً”ومفهوماً من الطرف الآخر فيعرف الطرفان أهمية مبدأ “التناسب” فتكون الوسيلة المعتمدة على حجم الهدف المطلوب معالجته ليس أكثر.. فإذا كان هدف الردع هو منع اندلاع الحرب بالكامل فهذا شيء أما إذا كان هدف الردع درء خطر اندلاع حرب محدودة فهذا شىء آخر.

ما تقدم يعني، بحسب الصابغ، ضبط كبير للنار في اللحظات والأيام الاولى فلا تفلت الأمور من عقالها فيتم تثبيت ما اتفق على تسميته في لبنان “قواعد الاشتباك” أي المدى الجغرافي ونوعية السلاح ونسبة الاذى المسموح بها من كل جانب. فنكون هنا أمام “ضوابط” وليس ردعاً بالمعنى المتعارف عليه للنزاع من كل جانب. هذا الانزلاق من الردع إلى إدارة الصراع يتم بسرعة واختلاط المفاهيم كذلك.

إن الاقتناع أن العدو لن يذهب إلى المستوى الأعلى أو الأقصى من استعمال القوة مبني إذا على الايمان بقدرة العدو وبإرادته السياسية وبالمنطق الذي يحتكم إليه مفهومه للردع، يتابع الصايغ، فأي خطأ في التقدير يحول الردع ببعديه المطلق والنسبي إلى مجرد “لعب” موازين قوة متحركة حسب الأهداف المطلوبة. هذا بالتأكيد ليس ردعاً ولا يشكل أي من الأمور المتوخاة من الردع.

ويضيف الصايغ: في الصراع النووي يقبض الإنسان على مقاليد كانت حكراً على الاله وهي إمكانية إنهاء الإنسانية في لحظة أي إمكانية التدمير الشامل. هذا هو الرادع المطلق الذي منع قيام حروب “مركزية” بين القوى العظمى وأسس للسلام البارد في عصور الحرب الباردة. إنما ذلك لم يمنع من انتشار الحروب الساخنة في قارات أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط ذهب ضحيتها أكثر من 30 مليون نسمة. فبين الردع المطلق في شمالي أميركا وأوروبا والردع النسبي في بقية القارات، عاش العالم مأساة الحروب المنخفضة الوتيرة مع كل آثارها على دول العالم الثلث والنمو العالمي. إنما للمحافظة على السلام البارد عملت واشنطن على تثقيف بقية اللاعبين الدوليين وإقناعهم بمفهوم الردع. بمعنى آخر يقبل الاتحاد السوفياتي ذو العقيدة الشيوعية الشمولية والذي لا يحده أي ميزان قوة مادية، أن يتم ردعه من قبل عدوه كما أن الأميركي وشركائه يقبلون ذات المنطق تجاه العقيدة المناقضة تماما لهم فيتم ردعهم من عدوهم الشيوعي.

لإتمام هذا الأمر يجب،بحسب الصايغ، بناء القناعة عند الفريقين فيتم اعتماد استراتيجية تبادل التدمير الشامل المؤكد Mutual Assured Destruction (MAD) بحيث يكشف كل فريق لعدوه عن نقاط ضعفه النووية ليطمئنه عن حسن نياته بأن لا دفاع لديه لرد أي ضربة أولى يقوم بها.

ويقول الصايغ: عندما سألت استاذي في جامعة ساكليه Saclay حيث درست وحيث لدي كرسي العلاقات الدولية منذ زمن وحيث تُجرى الابحاث الذرية الفرنسية عن مسار الأمور بعد الضربة الاولى أجابني نقلا عن أستاذه هنري كيسنجر: “كيف لي ان اعلم بذلك what the hell do I know about it?t? » هذا الاستطراد مفيدّ لفهم ما يحصل في الجنوب اللبناني. منذ اللحظة الاولى لَفتُ النظر إلى أن الحرب هي بين كيان يقاتل لوجوده وبين مكون ضمن كيان غير مهدد الوجود. بمعنى ان حرب الإسناد هي بين قوتين تقودان حربا ذات طبيعة مختلفة مع اهداف مختلفة ووسائل مختلفة.
ويتابع قائلاً: لذلك اختلف المنطق ولا يمكن أن يكون غير ذلك. عند المقاومة الاسلامية في لبنان يتطلب منطق الإسناد حرباً محدودة في نطاقها مفتوحة في مداها الزمني، إلا أنها فاقدة للإرادة السياسية الذاتية لأنها ربطت قرارها بقرار حماس في غزة. سقط العقل الاستراتيجي هنا في خطأ فادح اذ تغلبت عليه العقيدة الدينية ووهم الردع المطلق في إطار نزاع بدأ في ردع نسبي.إن هذا الارتباط الوثيق بين الصراع الوجودي في غزة مع سقوط الردع هناك بكل أبعاده لم ينحصر في الأراضي المحتلة. وبدل أن تفتش المقاومة في لبنان عن استراتيجية خروج من الحرب عمدت إلى استراتيجية انخراط مع تغيير في العناوين. فتحولت تدريجياً من دعم وإشغال إلى استراتيجية وجود مع التاكيد دائماً على التمسك بقواعد الاشتباك. كذلك أصرت على اعتبار أن القرارات الدولية لاغية حتماً لأنها تطلب من قواتها التموضع شمال الليطاني بما يطيح بالإطار القانوني لأي حل دبلوماسي ينهي الصراع على أسس مقبولة وافقت عليها جميع الأطراف عام 2006 ويسمح في الوقت عينه باعتماد استراتيجية خروج من الحرب عبر تخفيف متدرج للتوتر. وفي الوقت عينه بقي العدو الإسرائيلي على أدبياته من حيث تمسكه بالقرارات الدولية وقواعد الاشتباك مع الاعلان عن نواياه السلمية تجاه لبنان.

ويضيف الصايغ: نحن إذا أمام منطقين مما يسقط الردع ببعديه المطلق والنسبي. ومن يقدر عمق الصدمة الكيانية في دولة إسرائيل نتيجة 7 اكتوبر كان عليه أن يعرف أن لا شيء ولا أحد يستطيع أن يعتبر أن “طوفان الأقصى” ستمر عبر عملية انتقامية محدودة. لقد تحركت في الكيان الإسرائيلي العناصر الدينية العميقة التي وضعت المجتمع والجيش والسلطة في خندق واحد. منذ تلك اللحظة كان على المقاومة الإسلامية في لبنان أن تعرف أنها ليست في مواجهة عادية وأن الردع إن وجد سقط على أصله وأن كل ما تعطيه إسرائيل من كلام حول الالتزام بقواعد الاشتباك هو ليس نتيجة ضعف إنما يدخل في إطار استراتيجية الوجود.

ويعتبر الصايغ أن ليس تفصيلا أن يأخد العدو لنفسه حرية الحركة في دمشق والضاحية الجنوبية وطهران والنبطية وصيدا لاستهداف كبار الشخصيات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله. ليس تفصيلاً كذلك هذا الانتقال النوعي لاستهداف الجهاز العصبي للمقاومة الإسلامية عبر أكبر عملية تصفية للقادة الميدانيين في الجنوب. هذا خروج واضح عن منطق الردع الذي يتطلب اثنين لكي يستوي إذ لا يمكن أن يكون أحادياً فهناك رادع ومردوع. ينسحب هذا التحليل على الرد الإيراني المتوقع. إذ فقدت طهران صدقيتها في موضوع الردع منذ ردها الأول على الاعتداء على سفارتها في دمشق والرد الإسرائيلي على ردها مما كشف هشاشة الدفاعات الجوية فيها.

ويقول الصايغ: من حق إيران،أن تسعى اليوم إلى ترميم الردع إن وجد أصلا وإلا التفتيش عن صيغة تفاهمات إقليمية تمتد من تسوية ما إلى نظام إقليمي جديد. هذا موضوع آخر. لا بد كذلك من بحث موضوع إمكانية “من الضعيف إلى الأقوى” وهو ما تطبقه فرنسا منذ أيام الرئيس شارل ديغول. ذلك يعني عملياً أنه في حال تهديد نووي لفرنسا- أساساً من الجهة الروسية- تطلق القوات الفرنسية صلية أولى ضد الأراضي العدوة وهي بمثابة إنذار وحيد لدعوة العدو إلى كلمة سواء والعودة إلى رشده وإبراز النية والإرادة والقدرة على استعمال كامل القوة النووية في حال قررت روسيا الاستمرار في الهجوم. هذه استراتيجية فرنسية مستقلة نظرياً عن الحلف الأطلسي، إنما في واقع الأمر بقيت فرنسا حتى بعد خروجها من القيادة المشتركة للحلف “مغطاة” بالمادة 5 معدلة من الاتفاق الأطلسي الذي يؤمن المظلة النووية لكل أعضاء الحلف في حال تعرض أي منهم لاعتداء نووي من روسيا.

قد تكون الاستراتيجية النووية السابقة الذكر ، بحسب الصايغ، جذابة للمقاومة الإسلامية في لبنان. إلا أنها لم تطبق لعدة أسباب أهمها: عدم توفر المظلة الإيرانية الحقيقية واعتماد استراتيجية هجومية في 8 اكتوبر وهي مستمرة يومياً بهدف الإشغال مما يعني ان أي اقتباس من الاستراتيجيات الردعية الدفاعية الطابع لا تصح. يبقى أن الانتشار الدولي الحالي يعلن بصورة واضحة من يقبض على زمام الردع. إن فلتت الامور بضربة أولى نعود إلى جواب استاذي : “what the hell do I know about it? »