نشر موقع “العربي الجديد” تقريراً تحت عنوان: “من المليشيا إلى “الجيش الذكي”… كيف تقرأ إسرائيل التحوّلات في عقيدة حزب الله العسكرية؟”، وجاء فيه:
هذه الخلاصات هي مراكمة لما كان ينشره مركز الأبحاث التابع للجيش الإسرائيلي “دادو” على مدار العقد الماضي، وتكتبه رتب رفيعة من ضباطه. قراءة متأنية لتلك الدراسات يمكن أن تعطينا صورة عما تفكّر به المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حيال جبهة الشمال، ولماذا تجرّعت تغير قواعد الاشتباك على مدار 10 أشهر من القتال مع حزب الله من دون شنّ حرب مفتوحة، ولماذا تدفع الولايات المتحدة إلى خوضها بالنيابة عنها، ولماذا تبلغ تهديدات مسؤوليها من الترهيب والعجز معًا حدّ التهديد باستخدام أسلحة غير تقليدية.
بتوطئة موجزة، ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن “حزب الله” لم يعد يعمل بمنطق “المليشيا”، وصار أشبه بـ”الجيش الذكي”، وأن عقيدته القتالية تحوّلت من “النصر في عدم الهزيمة”، إلى النصر عبر تحقيق منجزات على الأرض، وأن هدفه الرئيس من أي حرب مقبلة سيكون “شل القدرة العملياتية للجيش الإسرائيلي بالكامل”، والمناورة بالقوات على الأرض مع تغطية من الجو. لكن، بحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن ذلك يتطلّب عنصرين أساسيين: أوّلًا المفاجأة، وثانيًا الدفاع الجوي المحكم، وهما غير متوفرين في الظرف الراهن، سوى أن الحزب راكم من المقدرة ما يمكّنه من إحداث أذى كبير ليس من السهل تداركه.
“تأثير الصدمة”
أشهر قليلة قبل أن تكون الحرب الواسعة مع لبنان في وارد صانع القرار الإسرائيلي، نشرت مجلة “بين القطبين” التابعة للجيش الإسرائيلي، والتي تعرّف نفسها على أنها “المكان الذي يطالع فيه قادة الجيش آخر ما استجد في فن الحرب”، دراسة للعميد في قوات الاحتياط إيتاي بارون، يسبر فيها التغييرات التي طرأت على عقيدة “حزب الله” الحربية مع زيادة كادره البشري، ودخول السلاح الدقيق إلى ترسانته الحربية.
يشرح بارون أن هذا السلاح أحدث “تحوّلاً عميقاً” في مفهوم الحرب لدى “حزب الله”، بشكل أدّى إلى انتقاله من صورة “الميليشيا” إلى “الجيش الذكي”ـ وفق مقتبس كلامه، والمقصود بذلك “قدرته على الضرب بدقة بناء على معلومات استخبارية متقدمة، والابتكار العملياتي في الحرب ما بين الحروب”.
ويذهب بارون إلى ما هو أبعد من ذلك، مجادلاً بأن هذه التحوّلات خلقت لدى “حزب الله” توجّهاً جديداً، وهو بناء المقدرة على “تدمير القوات البرية (المعادية) بشكل منهجي، لحظة الدفاع، ولحظة الهجوم”.
كذلك، يصف المقال هذا التغيّر في العقيدة العسكرية بأنه انتقال من فكرة “النصر عبر اللاهزيمة (الصمود)، إلى النصر عبر تقويض القدرات (للعدو)”.
لكن كيف ذلك؟ أحد الأجوبة يطرحها مقدّم في الاستخبارات الإسرائيلية، في مقال يعود إلى عام 2014، منشور في مجلة “المعارك” الصادرة عن الجيش الإسرائيلي والتي يعود تأسيسها إلى ما قبل قيام إسرائيل بتسعة أعوام.
هناك، يشير “المقدم ن” -كما يسمّيه المقال حفاظًا على السرية- إلى أن “حزب الله” يجري تنقيحاً لعقيدته القتالية قائماً على رؤية “إنهاء المعركة في أقصر مدة زمنية”، ويقرن ذلك بخطة “السيطرة على الجليل”، التي أفصح الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، عنها عام 2011، وبالدروس الاستراتيجية التي راكمها الحزب من القتال في سوريا، جنباً إلى جنب مع إحدى القوى العظمى في العالم، التي منحته للمرة الأولى رفاهية القتال مع إسناد جوي، وجمع مكثف للمعلومات، توازيًا مع المناورة العملياتية على الأرض.
وفي ضوء هذه المستجدات، يرى كاتب الدراسة أن “حزب الله” بات أقرب إلى تبني نهج “أكثر هجومية واستباقية”، بحيث “يضرب المراكز العلوية للجيش الإسرائيلي، ويحسم المعركة وهي بعد في بداياتها” ضمن قتال “تكون فيه القوة النارية مجرّد جزء في جعبة قتالية واسعة، تشمل الغارات البرية، واستخدام الصواريخ المضادة للدبابات، وللسفن، وكذلك صواريخ كروز”.
وضمن هذه الاستراتيجية، توقع “المقدم ن” هجوماً واسعاً بالصواريخ والقذائف ومضادات الطيران، من شأنه أن يحدث “تأثير الصدمة”، مصحوبًا باندفاع القوات الراجلة إلى داخل المستوطنات الإسرائيلية، والهدف إنزال ضربة قاصمة على إسرائيل من شأنها أن تجبرها على وقف القتال.
وبالنظر إلى حقيقة أن بعضاً من هذا وقع فعلاً يوم السابع من تشرين الأول، وعلى يد مقاومة أقلّ عدداً وعتاداً، لا يبدو أن سيناريو كهذا من وحي الخيال.
“شلّ المنظومة”
كان هذا التقدير سابقاً بزمن طويل إعلان نصرالله، عام 2019، امتلاك الحزب تكنولوجيا الأسلحة الدقيقة. في السنوات اللاحقة، نقرأ في الدراسات الصادرة عن دور النشر التابعة للجيش الإسرائيلي سيناريوهات أكثر سوداوية.
وفي مقال منشور عام 2020، مثلًا، يصوغ الباحث في مركز “دادو” التابع للجيش الإسرائيلي دمير بيليغ مقهوم “مركّب الهجوم والدفاع” لتوصيف عقيدة حزب الله القتالية في الحرب القادمة.
يجمع هذا المركّب بين 4 عناصر، الرافد الحيوي لها هو فكرة الدمج ما بين جمع المعلومات الاستخبارية والإغارة: “الهجمات الدقيقة لتحييد الوظائف التشغيلية والاستراتيجية في إسرائيل؛ مهاجمة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية؛ إضعاف الجبهة الداخلية عبر الهجمات الصاروخية؛ توظيف المظلّة النارية الضخمة من أجل تنفيذ هجمات برية قصيرة المدى الزمني والجغرافي داخل الحدود”.
والنتيجة الإجمالية لكل ذلك، بحسب الكاتب، ستكون “إحداث شلل في النظام، من شأنه أن يخلق عبئاً على منظومة اتخاذ القرار، ويعطّل القدرة على تصرّف الجيش في الوقت المناسب تحت طائلة الطلب المتزايد للقوات والقدرات من جهات أخرى”.
“تدمير قدرات الجيش الإسرائيلي”
في الدراسة الأحدث، المشار إليها في بادئة هذا النقاش، والتي أعادت مجلة “بينة القطبين” الملحقة رسميًّا بالجيش الإسرائيلي نشرها في خضمّ الحرب الحالية، وفي ذروة التأليب على حرب واسعة شمالًا، يذهب بارون إلى افتراض أبعد من مجرد عقيدة “النصر بالنقاط”: “تدمير قدرات الجيش الإسرائيلي”.
ويبني المقدم في جيش الاحتياط الإسرائيلي افتراضه هذا على أربعة تحديثات رئيسية استدخلها الحزب تمكّنه من تنفيذ ما يصطلح على تسميته عسكريًّا “الهجوم الاستخباراتي”: أوّلها، امتلاك الأسلحة الدقيقة، وهو ما يستدلّ عليه الكاتب من خلال الهجمات التي نفّذتها إيران وأذرعها في السنوات الأخيرة، وما رأينا بعض صوره خلال معركة “طوفان الأقصى”، وثانيها، وهو ما لم نره بعد، فهو مقدرة الحزب على شنّ ما يسمّيه الكاتب بـ”العاصفة الدقيقة”؛ أي استهداف مصفوفات كاملة من الأهداف الحيوية والاستراتيجية بشكل تزامني، ما يعني “تعطيل قدرة العدو على القيادة والسيطرة ومزامنة نشاطه العملياتي”.
وبالنظر إلى حسم سؤال النوعية، كلّ ما يحتاجه هذا الأمر هو كمية كبيرة من الصواريخ الدقيقة، وهو ما يرجّح المسؤول العسكري الإسرائيلي وجوده لدى الحزب، مستشهداً بتصريح لنصرالله عائد إلى عام 2020، يؤكد فيه أن “حزب الله يمتلك اليوم ضعف ما كان لديه من الأسلحة الدقيقة قبل عام”، وتصريحه اللاحق، عام 2021، حول المقدرة التكنولوجية على تحويل آلاف الصواريخ العشوائية في جعبة الحزب إلى دقيقة، ثم من مقدرة إيران على تلبية حاجة روسيا إلى هذه الوفرة من السلاح الموجّه الذي افتقرت إليه خلال مرحلة متقدمة من الحرب في أوكرانيا.
ثالث تلك التحديثات، وفق بارون، هو المقدرة على كبح القوات المهاجمة، وهذه أيضاً إحدى ثمرات “الهجوم الاستخباري”؛ أي القدرة على دمج المعلومات مع تنفيذ الضربات الوقائية بشكل ترادفي؛ أي جمع المعلومات عبر وسائل المراقبة -الطائرات بدون طيار على سبيل المثال- وإرسالها بشكل مباشر إلى مصادر القوة الصاروخية والمدفعية لشن الهجمات المضادة.
وضمن هذين البعدين، كما يشرح المقال، لا تقتصر عملية صد القوات البرية لدى العدو عند خطوطه الأمامية وحسب، كما حدث في حرب تموز الماضية، وإنما ضرب الخط الثاني وما يليه من خطوط الإسناد والدعم؛ وهنا يكمن البعد الثالث لأهمية الأسلحة الدقيقة، وتحديث الصواريخ البدائية قصيرة المدى منها لتحمل تلك المواصفات.
يقدّر المسؤول العسكري الإسرائيلي أن “حزب الله” قد طبّق هذا الشكل من “الكبح الهجومي” بالفعل، وهذا قبل أن تندلع الحرب الحالية ليتأكد ذلك في توثيقاته المستمرة لاستهداف ما يسمّيه “النقاط المستحدثة” للجيش الإسرائيلي، ومقدرته على مراقبة تحرّكاته، وضرب خطوطه الخلفية التي يعتقد أنها على مسافة آمنة من الحدود.
يضاف إلى أركان “الهجوم الاستخباراتي” الثلاثة هذه ما يسمّيه الكاتب “المناورة البرية الدقيقة والفتاكة”، وهي تثمير لكلّ ذلك المزيج الاستخباراتي بهدف خلق إنجازات في الميدان، أو بالأحرى، السيطرة على الأرض. يجمع شكل المناورة هذا، وفق الكاتب، بين المركبات البرية والجوية المأهولة وغير المأهولة، أي أنه يتطلّب تحرّكًا من الجو يهدف، في المقام الأول، إلى رفد القوات الراجلة بصورة عن واقع الميدان، ثم تقييم مدى فعالية الضربات.
رأينا أيضاً بعض إرهاصات ذلك في الحرب الحالية، ومن الأمثلة البارزة هنا تدمير “حزب الله” منطاد “سكاي ديو” التجسسي في قاعدة “إيلاني” شمالي فلسطين المحتلة بعد رصد مسبق للهدف، تبعه توثيق لاحق يؤكد نجاح المهمة. (العربي الجديد)