ينشرُ “لبنان24” مقالاً من الأرشيف، كتبه وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بوحبيب عن رئيس الحكومة الأسبق الرّاحل سليم الحص، وذلك بتاريخ 25 أيلول عام 2000.
وفي ما يلي نص المقال كاملاً الذي نُشر في جريدة “السفير” خلال العام المذكور:
لا أعرف إذا كانت هناك معرفة بين الرئيس الثالث لجمهورية الاستقلال فؤاد شهاب ورئيس الحكومة الحالي سليم الحص. قد تكون هناك فروقات عديدة وكبيرة خاصة في ما يتعلق بالرؤية وممارسة الحكم، لكن هناك خصائص ومواقف متشابهة ومتماثلة تجمع بينهما بخاصة في المرحلة الاخيرة من حياتهما السياسية. الرئيس فؤاد شهاب كان وليد المدرسة العسكرية والثقافة الفرنكوفونية والرئيس سليم الحص صاحب دكتوراه بالاقتصاد ومتأثر بالثقافة الاميركية. الرئيس شهاب ألهم مؤيديه لتأسيس النهج الشهابي والدكتور الحص أتت به الشهابية في عهد الرئيس الياس سركيس إلى رئاسة الحكومة، والاثنان دخلا السياسة وهما ليسا أصلاً من أهلها فمارساها بجرأة ووطنية ونزاهة متفانية.
انتخب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بعد حوادث 1958 القصيرة نسبياً، بينما انتدب سليم الحص لرئاسة الحكومة بعد حرب السنتين (1975-1976) التي اعتبر يومذاك بأنها انتهت وكانت مهمته الإشراف على الإعمار والتنمية. لم أتعرف إلى بيت الرئيس شهاب لكنني أسمع انه كان متواضعاً ولو كبيراً. وأما منزل الرئيس الحص فهو أكثر تواضعاً وعلى قياس صاحبه. الرئيس شهاب رفض الانتقال إلى القصر الجمهوري في القنطاري وبقي في منزله في صربا وترك الدولة تأخذ وقتها في بناء قصر بعبدا الذي انتهى بناؤه في عهد الرئيس شارل حلو. الرئيس الحص أيضاً رفض الانتقال إلى القصر الحكومي الشاسع في السراي الكبير ليصبح أول رئيس حكومة يسكن مقراً رسمياً، وفضّل البقاء في بيته في عائشة بكار بين “أهله”. وبالرغم من ان الرئيس الحص يحب الاشتراك بندوات ومؤتمرات اقتصادية وثقافية وسياسية، إلا أنه كالرئيس شهاب يؤمن بأن “خير الكلام ما قلّ ودلّ”، والرجلان يتصفان بالنزاهة ويؤمنان بالمحاسبة ويخشيان أكلة الجبنة (Les fromagistes). لقد تسلم الرئيس شهاب زمام رئاسة الجمهورية أثناء حوادث 1958 وكان همّه الأول توقيف الحرب القائمة وإعادة بناء الوحدة الوطنية.
وسار في هذا المجال بخطوات عديدة لإقامة توازن عادل ومنصف بين المذاهب والطوائف اللبنانية فجاء بزعماء المذاهب إلى الحكومة برغم اعتماده على فريق تكنوقراطي من مختلف المذاهب لإدارة دفة الحكم. كذلك وضع عهد الرئيس شهاب قانوناً جديداً للانتخابات سمح بتمثيل أشمل في البرلمان لكل الفئات اللبنانية. ولقد عكس تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية الوضع الطائفي الجغرافي في المدينة فوصل إلى البرلمان نواب يُمثّلون سكان بيروت بمختلف مذاهبهم وليس كما هو الحال اليوم حيث عكست الدورات الانتخابية الثلاث الماضية ميول وتمنيات فئة رئيسية واحدة من أبناء المدينة.
قام الرئيس شهاب أيضاً بحملة واسعة ومنظمة لتحقيق العدالة الإجتماعية بإيصاله البنية التحتية من مياه وكهرباء وطرقات ومدارس ومعلمين ومستوصفات إلى خارج بيروت، لكن الخطوة الأهم التي كلّفته سياسياً، وهي بيت القصيد لهذه المقالة، هي الإصلاح الإداري الذي لم يقتصر فقط على تحديث وتجديد القوانين والعقلية في الإدارة، إنما سار مسافة طويلة في إعادة توزيع الوظائف الرئيسية في الدولة بين المذاهب اللبنانية. لقد كان ما يزيد على 70 في المئة من كبار موظفي الدولة من المذاهب المسيحية بينما دعا الميثاق الوطني لعام 1943 إلى تقاسم هذه الوظائف بالتساوي. وكانت حجة الرئيس شهاب أن الوحدة الوطنية تتطلب بأن يشعر كل فريق أن حقوقه غير مهضومة وليس هناك فريق محبط، وإلا حدث شرخ في الوحدة الوطنية.
كذلك وإذا كان يصح بأن عدد المثقفين والمتعلمين من المذاهب الاسلامية كان قليلاً نسبياً في الأربعينيات الماضية فهذا لم يعد صحيحاً في أواخر الخمسينيات بالإضافة إلى المطالبة الإسلامية بالحصة المحقة من وظائف الدولة. ولعل المطلعين على تاريخ تلك الفترة يعرفون بأن المذاهب المسيحية وبخاصة الموارنة لم تقتنع بمنطق وحجة الرئيس شهاب وكان حقدها عليه بلا هوادة، كما تبين من انتخابات 1964 و1968 النيابية. لقد نقل الرئيس شهاب مقر رئاسة الجمهورية إلى صربا في قضاء كسروان الذي هو منه. وكان هذا القضاء إلى حد بعيد يغلب عليه الطابع القروي الريفي وجونية كانت قرية كبيرة من دون الكازينو والمطاعم والمسابح التي نشاهدها اليوم عند زيارتنا لها. ومع انتهاء العهد الشهابي في أيلول/سبتمبر 1964 أصبح قضاء كسروان من أكثر الأقضية اللبنانية تنمية وبخاصة من ناحية البنية التحتية، والحق يقال، إن ما قام به عهد الرئيس شهاب في كسروان يفوق بأشواط ما قامت به العهود السابقة واللاحقة للعهد الشهابي منذ الإستقلال. وبالرغم من ذلك، لقد خرقت اللائحة الشهابية في انتخابات كسروان لدورة 1964 وسقطت لائحة الشهابيين بفارق كبير في انتخابات 1968 لصالح “الحلف الثلاثي”.
كان يتردد يومذاك في الأوساط المسيحية بأنه “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان”، بكلام آخر، برغم جهود الرئيس شهاب الاقتصادية لبناء منطقة كسروان، خذله موارنة كسروان لأنه اعتدل في حكمه وفي سياسته العربية التي كانت إلى حد بعيد موالية لسيد مصر جمال عبد الناصر. أما الرئيس الحص، فقد تسلم زمام رئاسة الحكومة في أواخر عام 1976 معتقداً أن الحرب قد انتهت وابتدأ عهد إعادة البناء. لكن حسابات الحقل لم تطابق توقعات البيدر، فمع عودة الحرب أصبح الرئيس الحص بنظر معظم المسيحيين يتصرف “بغريزته الاسلامية” وخصوصاً أن علاقته مع الرئيس المعتدل الياس سركيس تدهورت وقاربت الطلاق. ولأنه أصبح “رمزاً للمقاومة السياسية الإسلامية والوطنية”، أتى به الرئيس رشيد كرامي عام 1984 وزيراً في الحكومة الثانية لعهد الرئيس أمين الجميل ثم عيّنه الأخير رئيساً للحكومة بالوكالة بعد اغتيال الرئيس كرامي بناء لاقتراح الهيئات الإسلامية.
وصل الرئيس الحص إلى قيادة القوى الإسلامية والوطنية، عندما أقاله الرئيس الجميل في الدقائق الأخيرة من عهده وعيّن مكانه العماد ميشال عون. لقد رفض الرئيس الحص الإقالة وأصبح رأس السلطة خارج المناطق المسيحية التي كانت تحت سلطة العماد عون، وعند انتخاب رينيه معوض (وبعد اغتياله انتخب الياس الهراوي) رئيساً للجمهورية بعد اتفاق الطائف لعام 1989، كان الرئيس الحص المرشح الوحيد غير المنازع لرئاسة الحكومة.
بكلام آخر، لقد وصل الرئيس الحص عام 1990 إلى ذروة القيادة الإسلامية والوطنية وأصبح موضعاً للحسد وهدفاً للقيادات السنية المنافسة في بيروت ولبنان. كان الرئيس الحص خلال تمرسه برئاسة الحكومة في عهود الرؤساء سركيس والجميل والهراوي واميل لحود يعرف ويفهم حقوقه وحدوده بالنسبة إلى الرئاسة الأولى، وبالرغم من اختلافه شبه الدائم مع الرؤساء السابقين، كان الرئيس الحص يعرف أنه وبالرغم من الحرب وزيادة صلاحيات رئيس الحكومة بعد اتفاق الطائف يبقى رئيساً للحكومة وأن هناك الرئيس الأول في البلاد وهو رئيس الجمهورية.
ومن سوء حظ الرئيس الحص أن خصمه السياسي أصبح في التسعينيات الرئيس رفيق الحريري، بما يُمثّل من ظاهرة فريدة في السياسة اللبنانية، فهو ليس فقط غنياً كبيراً، إنما الأهم أنه يعرف استعمال موارده لتحقيق طموحاته وأهدافه السياسية والإقتصادية. فمنذ أن بدأ نجمه يلمع في أوائل الثمانينيات لم يبخل على طالب ولا عائلة متواضعة او محتاجة ولا على جامع أو كنيسة أو رجل سياسي أو حزب سياسي. وحتى الميليشيات بمختلف ولاءاتها السياسية استفادت من كرمه. ويصل نفوذ الرئيس الحريري إلى أوروبا وأميركا والعالم العربي بالإضافة إلى المؤسسات والمنظمات الدولية والاقليمية.
ولكن من سوء حظ الرئيس الحريري أنه اعتلى رئاسة الحكومة في عهد اكتفى سيده بالمركز والمنفعة الشخصية وترك كل مهام الرئاسة الأولى إلى رئيس حكومته الذي تصرّف كسيد للبلاد والرئيس المطلق للسلطة التنفيذية ووصل نفوذه إلى المس بالسلطتين التشريعية والقضائية، ونتج من جراء ذلك إحباط مسيحي لأن معظمهم اعتبر بأن الطائف قد جرّد الرئاسة الأولى من صلاحياتها وألغى دور رئيس الجمهورية، بينما كان يعكس الوضع في العهد السابق القوة الشخصية لرئيس الحكومة والضعف الشخصي لرئيس الجمهورية. والأسوأ من كل ذلك أن المسلمين السُنة في لبنان وبخاصة في بيروت اعتبروا أن ما حصل في العهد الماضي هو الدائم وليس مرحلة عابرة، فعندما عاد الرئيس الحص إلى رئاسة الحكومة في عهد الرئيس لحود الذي أشار بصراحة في خطاب القسم إلى استعادة الرئاسة الأولى لدورها حسب اتفاق الطائف، زال الجزء الأكبر من الإحباط المسيحي وبدأ الإحباط السني الذي انعكس التفافاً غير عادي حول الرئيس الحريري. طبعاً، لقد لعب المال والركود الإقتصادي دورهما في الانتخابات الاخيرة (2000)، لكن ذلك ليس بالسبب الكافي لإسقاط الرئيس الحص الذي بقي في بيروت خلال سنوات الحرب يعيش مع أبنائها المخاطر والمشاكل المحلية والوطنية والاقليمية والدولية وذلك لمصلحة غريب عن بيروت كان يقطن قبل الحرب وخلالها في الرياض وباريس.
بالإضافة، لم تعتد بيروت في السابق على إسقاط رئيس حكومة قائم، لقد أعطت بيروت أكثرية ساحقة للرئيس عبد الله اليافي في انتخابات 1968، بعد أن أفشلته في مرتين سابقتين. لقد قيل يومذاك بأن الرئيس شارل حلو انتشل الرئيس اليافي من الرماد ليُزعّمه على بيروت لأن العاصمة لم تخذل يوماً رئيساً للحكومة. إن الالتفاف حول الرئيس الحريري ولوائحه في بيروت كان موقفاً لسنة بيروت ضد اعتدال الرئيس الحص. فكما كانت انتخابات كسروان في الستينيات ردة فعل مارونية على اعتدال الرئيس شهاب، كانت انتخابات بيروت الأخيرة ردة فعل سنية على اعتدال الرئيس الحص، وكما فعل “الحلف الثلاثي” الذي زرع في نفوس الموارنة يومذاك أن الرئيس شهاب ناصري (ينتمي إلى جمال عبد الناصر) وباع حقوق وامتيازات الموارنة، قامت الحريرية بتزكية العداء السني للرئيس الحص بالإشاعة أنه تحول إلى المذهب الشيعي وباع حقوق وامتيازات السنة التي حصلوا عليها في “عهد” الحريري.