مرّت أيام على العملية العسكرية الواسعة التي نفّذها “حزب الله” ردًا على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، أو ما أسماها بـ”عملية يوم الأربعين”، لكنّ “الجدل” حولها لم ينتهِ فصولاً بعد، في ضوء الغموض المحيط بنتائجها، بفعل سياسة التكتّم الإسرائيلية، وسط قراءتين متباينتين لها، بين العدو الذي يزعم إجهاضها قبل وقوعها، والحزب الذي يؤكد أنّها نجحت في تحقيق الأهداف المتوخّاة منها أساسًا.
وفي وقت بقيت هذه العملية بحيثياتها ونتائجها، في صدارة اهتمامات الأوساط السياسية والدبلوماسية، ربطًا أيضًا بالتبعات المحتملة لها على مستوى الجبهة اللبنانية المفتوحة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، فإنّ اللافت كان أنّ “الجدل” بشأنها انتقل أيضًا إلى الداخل اللبناني، الذي انقسم بدوره بين مؤيدي “حزب الله” الذين وجدوا في العملية “قفزة” في مسار الصراع، وخصومه الذين لم يتردّدوا في المقابل في التشكيك بالنتائج التي حقّقتها.
أكثر من ذلك، ذهب بعض خصوم الحزب لحدّ اعتبار الردّ الذي نفّذه على استهداف الضاحية الجنوبية، مجرّد “مسرحية أخرى”، ليستعيدوا بذلك توصيفًا أطلقه الكثيرون على الهجوم الإيراني في وقتٍ سابق، بل إنّ الأمر وصل ببعضهم لحدّ التلميح بأنّ “اتفاقًا مبطنًا” حصل، بحيث يأتي الرد “شكليًا”، فلا يدفع نحو تصعيد إضافي في الصراع، وبالتالي لا يجرّ “حزب الله” وإسرائيل إلى حربٍ واسعة، ليس خافيًا على أحد أنّ خصوم الحزب يعارضونها بالمُطلَق…
الرد في عيون الخصوم
صحيح أنّ الكثير من خصوم “حزب الله” نأوا بأنفسهم عن العملية التي نفّذها فجر الأحد، ولم يخرجوا بتعليقات رسميّة عليها، فيما اكتفى بعضهم الآخر بالاستنتاج أنّ الوقت قد حان لوقف الأعمال العسكرية “بين الجانبين”، وإن لم تخلُ هذه التعليقات من “السخرية”، على خلفية “الرد والرد على الرد والرد على رد الرد”، كما جاء مثلاً في تعليق رئيس حزب “الكتائب” سامي الجميل، الذي انتقد “أكاذيب الخطابات وادعاءات الانتصارات الوهمية”، وفق وصفه.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ موقف خصوم الحزب، على المستوى غير الرسمي بالحدّ الأدنى، راوح بين “التشكيك” من جهة، و”السخرية والشماتة” من جهة ثانية، في مقاربة عملية “يوم الأربعين”، حيث اعتبر هؤلاء أنّ ردّ الحزب لم يكن “متوازنًا بالمُطلَق” مع الجريمة التي ارتكبها العدوّ في المقام الأول، وأنّه جاء بالتالي أضعف من التوقعات، وأقلّ من الطموحات، خصوصًا بعدما استبقها الحزب برفع السقف إلى أعلى المستويات، وهو ما لم يترجمه على الأرض.
أكثر من ذلك، يتحدّث هؤلاء عن “نقاط ضعف” في خطاب “حزب الله” الذي بدا “تبريريًا” في مكانٍ ما بحسب وصفهم، لدرجة أنّ أمينه العام في خطابه الذي جاء بعد ساعاتٍ على تنفيذ العملية، بدا “غير راضٍ” عن النتيجة، حين قال إنّه سيعطي نفسه هامشًا لتقييم الرد، قبل اتخاذ قرار ما إذا كان بحاجة لاستكمال، علمًا أنّ هذا الاستكمال رُحّل إلى “وقت آخر”، يبدو أمده بعيدًا، بعدما اختار “طمأنة” جمهوره وعدوّه، إلى أنّ “لا شيء في الأفق”.
ما يثير الاستغراب.. والدهشة
بمعزل عن المقاربات “التخوينية” التي قد يلجأ إليها البعض إزاء خطاب خصوم “حزب الله”، وصولاً لحدّ اتهامهم بتبنّي السردية الإسرائيلية “كما هي”، على حساب السرديّة التي يفترض أن تأخذ طابعًا “وطنيًا”، ولا سيما أنّ الحزب كان يردّ على انتهاك فاقع للسيادة اللبنانية، يقول الدائرون في فلك الحزب والمؤيدون للمسار الذي يتبعه، إنّ ما يثير الاستغراب، بل الدهشة، فيه أنه يصوّر فريقًا يرفع شعار “لا نريد الحرب”، وكأنّه “يستدرج” هذه الحرب.
بالنسبة إلى هؤلاء، قد تكون “غيرة” هذا الفريق على مستوى عمليات “حزب الله”، لدرجة الشعور بـ”الإحباط” لأنّ الردّ لم يكن “قويًا كفاية”، وفق السرديّة الإسرائيلية بطبيعة الحال، مؤشّرًا إيجابيًا، لو كانت صادقة، إلا أنّ ما لا يمكن استيعابه، هو أن يعترض هذا الفريق تحديدًا، على الاستنتاج القائل بأن الحزب “فصّل” الرد بطريقة لا تؤدي إلى “حرب شاملة”، علمًا أنّ مثل هذا الأمر لو صحّ، كان يفترض أن يحظى بإشادة وتنويه هذا الفريق، لا العكس.
استنادًا إلى ما تقدّم، يعتبر أصحاب هذا الرأي أن السؤال المشروع قد يكون: “من الذي يريد الحرب؟ أهو الذي يسعى للحفاظ على هيبة الردع، من دون أن يقدّم للعدو ما قد يعتبره ذريعة للحرب، أم هو الذي يستهجن مثل هذا الأمر، ويصرّ على تسخيف الردّ، وكأنّه يطالب بردّ آخر من النوع الذي يؤدي لحرب، حتى إن الضوابط التي قال السيد نصر الله إنه وضعها في اعتباره، ومن بينها تجنّب استهداف المدنيين، قوبلت أيضًا بالسخرية والانتقاد؟”.
يرفض خصوم “حزب الله” الاستنتاج القائل بأنّ اعتراضهم على الردّ يعني أنّهم كانوا يريدون ردًا أقوى يؤدي إلى حرب، ولكنّهم يلفتون إلى أنّ الحزب هو الذي ورّط نفسه بالمأزق حين رفع السقف في المقام الأول. في المقابل، ثمّة من يرى أنّ المشكلة لدى خصوم “حزب الله” في ازدواجية المعايير، التي تجعلهم يعترضون في كلّ الأحوال، فإذا كان الردّ قويًا، يُتهَم الحزب بتوريطنا في الحرب، وإذا كان الردّ مدروسًا، يصبح ضعيفًا وأقلّ من الطموحات!