ثقيلة بدت الأيام الأخيرة على الجبهة اللبنانية التي شهدت تحوّلاً يصحّ وصفه بـ”الدراماتيكي”، سواء على المستوى “النظري” مع إعلان تل أبيب انتقال الثقل العسكري إلى حدودها مع لبنان، ووضعها “إعادة المستوطنين” على رأس أهداف الحرب، أو على المستوى “العملي”، بفعل المجازر الدموية التي ارتكبتها، بدءًا من الاستهداف المتزامن لأجهزة الاتصال، وصولاً إلى ضربة الضاحية الجنوبية الثالثة، والتي يصحّ وصفها بـ”الوحشيّة”.
Advertisement
وإذا كانت الفاتورة البشرية “الثقيلة” التي ترتّبت على المجازر الإسرائيلية غير المسبوقة، تؤكد بدورها على هذا المعطى، مع سقوط عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى في أسبوع واحد، بما يوازي ربما فاتورة 11 شهرًا من “معركة الإسناد”، فإنّ تبعات هذه المجازر بدت “ثقيلة” أيضًا على “حزب الله” الذي تعرّض لاختراق غير مسبوق على أكثر من مستوى، لدرجة خسارة “وحدة كاملة” في استهداف واحد، كما حصل في ضربة الضاحية.
مع ذلك، اختار “حزب الله” أن يستعيد زمام المبادرة، فلم يتأخّر في الردّ الأولي على الانتهاكات الإسرائيلية، ليطلق ما سمّاها نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بمعركة “الحساب المفتوح”، التي كانت باكورتها قصف حيفا للمرّة الأولى منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، بل منذ حرب تموز 2006، فكيف يُقرَأ ردّ الحزب، وكيف تُفهَم معركة “الحساب المفتوح” في موازين القوى، وهل يمكن القول إنّ التصعيد الحالي “أطاح” بقواعد الاشتباك عن بكرة أبيها؟
سقوط “الخطوط الحمر”
قبل “تفكيك” الرسائل التي انطوت على ردّ “حزب الله” على مجزرتي أجهزة الاتصال، وتبعاته على قواعد الاشتباك التي حرص الحزب تحديدًا على الالتزام بها على امتداد الفترة الماضية، على الرغم من كلّ “الاستفزازات” التي كان العدوّ يتعمّد الإمعان بها، في مسعاه لجرّ الحزب ربما إلى الحرب، يقول العارفون إنّ ما يجب التوقف عنده، هو أنّ ما جرى على امتداد الأسبوع الماضي، لم يمسّ بقواعد الاشتباك فحسب، بل أسقط كلّ “الخطوط الحمر”.
يتجلّى ذلك بوضوح في مجزرتي أجهزة الاتصال، اللتين حملتا بصمة إسرائيلية واضحة، ولو حرصت تل أبيب على عدم تبنّيهما رسميًا، من دون أن تتوانى عن “التلميح” لمسؤوليتها عنها كما فعل رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، حين تحدّث عن ضربات “لم يكن حزب الله يتصوّرها”، علمًا أنّ هاتين المجزرتين تشكّلان “سابقة” على المستوى العالمي، وهما لا تتجاوزان قواعد الاشتباك فحسب، بل كلّ قوانين الحروب وأخلاقياتها، ولو لم يكن العدو يعترف بها أساسًا.
ويسري الأمر نفسه على مجزرة الضاحية الجنوبية، التي “تباهى” بها العدوّ باعتبار أنّه حقّق فيها “صيدًا ثمينًا” باستهدافه اجتماعًا عسكريًا قياديًا، كان يفترض أن يكون “سريًا”، إلا أنّه بهذه الجريمة كسر أيضًا كلّ قواعد الاشتباك، لأنّ ما حصل لا يمكن أن يندرج ضمن خانة “الاغتيال”، مع استهداف عشرات المدنيّين، ولا سيما من النساء والأطفال، الذين لم يرتكبوا أيّ ذنب، بل كانوا في بيوتهم التي يفترض أنها آمنة، وخارج نطاق “الحرب المجنونة”.
“الحساب المفتوح”
إزاء التصعيد الإسرائيلي “الأعنف” على الإطلاق منذ فتح جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي، تحت عنوان إسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وجد “حزب الله” نفسه في موقفٍ لا يُحسَد عليه، فالانكفاء أو التراجع سيُعَدّ بمثابة “هزيمة واستسلام”، ولذلك على الأرجح جاء قراره بعدم التريّث في الردّ، كما فعل مثلاً بعد اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، وبالتالي الردّ بشكل سريع، ولو على طريقته، وبعيدًا عن الانفعال المُبالَغ به.
وعلى الرغم من أنّ الحزب أعلن على لسان نائب أمينه العام إطلاق معركة “الحساب المفتوح”، وفق توصيفه، معتبرًا الضربات الصاروخية التي نفذها فجر الأحد على مجمع صناعات عسكرية وقاعدة جوية إسرائيلية قرب مدينة حيفا، “دفعة على الحساب”، إلا أنّه بحسب ما يقول العارفون، بقي حريصًا على “عدم مجاراة” الجانب الإسرائيلي بكسر قواعد الاشتباك، فهو حصر الاستهداف بالمواقع العسكرية، ولو وسّع مداه، “من خارج الصندوق” إن صحّ التعبير.
ويشير العارفون في هذا السياق، إلى أكثر من رسالة أراد الحزب إيصالها من خلال ردّه الأولي، على رأسها رسالة “صمود وتحدٍّ”، باعتبار أنّ الضربات الإسرائيلية الأخيرة لم تشلّ قدراته، كما حاول العدوّ الإيحاء، وهو لذلك أراد أن يؤكد قدرته على الردّ رغم كلّ شيء، ولكن أيضًا رسالة “ردع” باعتبار أنّه بقصفه حيفا، أراد القول إنّ توسّع المواجهات والمعارك لن يحقّق هدف الإسرائيلي بإعادة المستوطنين، بل سيوسّع دائرة “التهجير” أكثر فأكثر.
يقول البعض إنّ “حزب الله” من خلال ردّه على الجرائم الإسرائيلية الأخيرة، أراد القول إنّه لا يزال “مضبوطًا” إلى حدّ ما بقواعد الاشتباك، وإنّه لن ينجرّ بأيّ حال من الأحوال، إلى “الفخّ” الإسرائيلي، الذي يسعى لاستدراجه إلى الحرب. لكن، في مقابل هذا الرأي، ثمّة من يسأل عمّا بقي من هذه القواعد بعد مجازر إسرائيلية لا يمكن أن تترك انطباعًا بأيّ مراعاةٍ لأيّ قواعد، بل هي تفتح الباب أمام “الجنون” بأتمّ معنى الكلمة!