تسعى إسرائيل إلى تحسين شروطها التفاوضية ظناً منها أنها حققت انتصارات على حزب الله على المستوى العسكري. فحشدُ جيش العدو الإسرائيليّ قوّاته ومُدرّعاته في منطقة الحدود الجنوبيّة على قاعدة أنه قادر على الحسم برياً، إلا أن حزب الله، وفق مصادره، يقدم أداء اسطورياً في البر وأنه سوف يفاجئ الإسرائيلي من حيث لا يدري.
وبالتوازي مع الميدان، فإن المساعي الحثيثة والجهود الدؤوبة التي يبذلها الأطراف الدوليون لا تزال متعثرة أمام تعنت إسرائيل التي تظن أن توغلها برياً سوف يقطع أواصل الطرقات في جنوب نهر الليطاني، ويفصل المناطق عن بعضها البعض، ويعزل المنطقة كلها عن شمال الليطاني. في حين أن لبنان لا يزال يتمسك بتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب.
تحاول إسرائيل إيجاد أو فتح ثغرة في الدفاعات المقامة على الجبهة الجنوبية، وفي الوقت عينه تقوم بتكثيف الغارات الجوية وتوزيعها على مناطق عدة لتشديد الضغط على المقاومة من خلال بيئتها بشكل خاص، والبيئات اللبنانية الأخرى بشكل عام. وبين هذين الشكلين من الضغط العسكري، يقوم نتنياهو بإبراز نفسه أمام المجتمع الدولي كمنتصر، يحاول فرض شروطه على لبنان، وعلى الوسطاء للحصول على أقصى قدر ممكن من المكاسب السياسية قبل قرار إعطاء الأوامر لقواته بالدخول واجتياح جنوب لبنان.
ويقول العميد الركن المتقاعد في الجيش اللبناني كلود الحايك المتخصص بالإتصالات والتكنولوجيا لـ”لبنان24″ ، إن الجيش الإسرائيلي هو من الجيوش المجهزة بشكل ممتاز والفائقة التدريب، كما والمدعومة بشكل علني ومباشر من الولايات المتحدة وجيشها ومخابراتها. إلا أن الميدان يكشف في الواقع مدى فعالية هذا التدريب، وقدرة الجيش على استخدام كافة أنواع عتاده وأسلحته بالتنسيق والتزامن اللازمين. فالواقع على الجبهة الجنوبية أن وحدات النخبة تكبدت خسائر جسيمة في اليومين الأولين التي حاولت فيها الدخول إلى الأراضي اللبنانية؛ فقد تسللت وحدات قتالية صغيرة، وقامت بتنفيذ ما يدعى الاستطلاع بالنار، فعلقت بالكمائن، وتعرضت للتفجيرات، وسارعت الطوافات المعادية إلى سحب القتلى والجرحى من أرض المعركة… ما أجّل الاجتياح البري “المنتظر” كون قادة العدو ما زالوا مترددين لناحية تعريض قواتهم البرية لخسائر جسيمة، كما وخوفاً من تكرار سيناريوهات حرب تموز 2006.
والواقع، بحسب العميد الحايك، هو أن المقاومة تقاتل دفاعياً، فالأرض أرضها، وهي تعرف تفاصيلها الكاملة “فوق الأرض وتحتها”، بينما يعتمد العدو على القدرة التدميرية الكبيرة لقنابله الارتجاجية في محاولة منه لتدمير الأنفاق، والقضاء على من بداخلها. كما أنه لا يملك من المعلومات عن الأرض سوى ما هو ظاهر على السطح فقط، ما يعطي الأفضلية قتالياً، من الناحية البرية، للمقاومة حتى الآن.
لهذا السبب، وبغية إضعاف الروح القتالية للمقاومين جنوباً، يقوم العدو، كما يقول الحايك، بقصف ممنهج وبقدرة تدميرية عالية على بيئة هؤلاء المقاومين، وأهلهم وعائلاتهم، وعلى مناطق وبيئات أخرى، علهم يتوقفون عن القتال ويرضخون للأمر الواقع، فيسهل دخول الجيش الإسرائيلي المعادي إلى الجنوب، ويجبرهم على إلقاء أسلحتهم، ثم يفرض شروطه كمنتصر، كما يريد. لكن رياح المعارك جنوباً لا تسير كما تشتهي سفن العدو وطائراته ودباباته، فالمقاتلون ما زالوا في خنادقهم وأنفاقهم، يقاتلون رغم تمكن العدو من ضرب الصف الأول من منظومة القيادة والسيطرة لحزب الله، ومن تعطيل وإرباك شبكات الاتصال لديهم، فهم تدربوا على ذلك ولا يتركون مواقعهم إلا بالاستشهاد، أو بتلقي الأوامر الصحيحة من قياداتهم الموثوقة. ولهذا السبب تقوم إسرائيل بزيادة الغارات الجوية على البيئة الحاضنة للمقاومة، وتدمر الأحياء السكنية، ولا ترتدع عن تدمير الكنائس والمساجد، وعن توسيع رقع قصفها الجوي العنيف ليطال مناطق تعتبر “آمنة نسبيا”، علها بذلك تصل لمبتغاها السياسي، وهو إجبار حزب الله على الانسحاب من مواقعه الجنوبية، إلى مسافات يختلف من يطلبها أو يتوسط لأجلها على تحديدها، فمنهم من يطالب بكيلومترات سبعة، ومنهم من يصل لحدود الثلاثين كيلومتراً، ومنهم من يحدد مجرى نهر الليطاني كحدود لهذا الانسحاب، الخ… ولكن المفارقة هنا تكمن في أنه من الغباء تحديد مسافات محددة، فصواريخ المقاومة لا يقتصر مداها على الثلاثين كيلومتراً، وبالتالي، يبقى باستطاعتها قصف العمق الإسرائيلي بسهولة بصواريخ رابضة في المناطق الخلفية، وذات المديات التي تفوق ال 150 كلم. لذلك تطالب إسرائيل والمجتمع الغربي بأن يتم تسليم سلاح حزب الله إلى الجيش ، وبهذا تكون إسرائيل والغرب قد تخلصا من الفريق المزعج الأول (المقاومة)، فيبقى أماهم الفريق المزعج الثاني وهو الجيش . فمنذ متى تثق إسرائيل بهذا الجيش؟ وإذا كان الغرب يرفض تسليح الجيش بسلاح قادر على أذية إسرائيل، فكيف يأمن ناحية استلام الجيش هذا سلاح حزب الله الفتاك؟ لذلك، برأي العميد الحايك، وفي حال تم التمكن من الوصول إلى هذه المرحلة، عندها سيطلب من الجيش إما تدمير هذه الأسلحة، أو إعادتها إلى مصادرها… ما يعني عدم بقائها بيد الجيش، وعدم تهديدها مطلقاً لتفوق الجيش الإسرائيلي الكامل على الأرض.
ما زال من المبكر اعتماد أي استنتاج من هذه الناحية قبل معرفة نتائج الأرض، وقدرة العدو على التوغل جنوباً، وقدرة المقاومة على الاستمرار بصده. لكن في هذه الحال، أي في حال تمكنت المقاومة من القتال براً لفترة طويلة، وكبدت فيها العدو ما أمكنها، يصبح الجهد الحربي لهذا العدو مقسوماً، بحسب الحايك، على جبهتين: غزة والجنوب، وهنا يشتد وطيس المعركة في حال فتحت جبهة الجولان مثلاً، ما يضطر العدو لفصل قوى إضافية مقابل ذلك المحور أيضاً. كذلك يشتد الضغط عليه إذا ما قرر توجيه ضربة عسكرية لإيران، فتقوم الأخيرة بالرد بشكل أقسى” كما وعدت، وهنا لا يتحدث الحايك عن العراق واليمن، ولا يعود إلى مقولة وحدة الساحات، التي يمكن أن تفرض نفسها يوماً إذا طال أمد الحرب هذه، وفي هذه الأحوال سيطول.
كل ذلك، إن حصل، يفرض تدخلات ديبلوماسية فاعلة، غصباً عن إسرائيل ونتنياهو؛ وهنا يتوقع الحايك في المدى القريب تحركاً فرنسياً فاعلاً، يبدأ بالضغط لوقف القصف الجوي على الداخل اللبناني، والضغط على الحليف الأميركي لإقناع إسرائيل بالتوقف، والعمل في الوقت عينه على إيجاد صيغة يلعبها الجيش ، فينتشر بنتيجتها على كامل الحدود الجنوبية، مدعوماً بقوات دولية ربما تتغير مهامها وتكليفاتها. وكل ذلك مرهون بالقدرة على إقناع المقاومة بذلك، وبالأخص إقناعها بأن العدو لن يدخل متراً واحداً جنوباً، وطبعاً بعد حل قضية السلاح بشكل يحفظ كرامة المقاومة والوطن والجيش.
وعليه، لا يجد الحايك حتى الآن أن إسرائيل قادرة على إحداث خرق دائم جنوباً، فإن عمق التحضيرات الدفاعية للمقاومة يمكن أن يجعل هذا التوغل إن حصل، مقبرة للغزاة، اللهم إن لم يجد الإسرائيليون والغرب طريقة لقتال من يدافع ضمن أنفاقه بشراسة، وهذا الأمر لا يبدو بقريب.
ومن الناحية السياسية، فمهما حاول نتانياهو أن يفرض من شروط، فإن الميدان هو من يقرر تمكينه من فرضها أم لا، وفي حال النفي، أو إطالة أمد المعركة، يرى الحايك التدخل الديبلوماسي العالمي حاصلاً لوقف القتال ضمن صيغة عسى أن تكون مقبولة من الجميع.
ويقول العميد الركن المتقاعد خليل الجميّل قائد قطاع جنوب الليطاني سابقًا من جهته لـ”لبنان24″ انه بالرغم من حالة انعدام الثقة بالقانون الدولي التي تسود اليوم على وقع ضجيج الحرب، فأنه في نهاية الأمر ستعود كافّة الاطراف إلى إعتماد الحلول الدبلوماسيّة لإنهاء حالة الحرب والعدوان على لبنان وفق مفاهيم القانون الدولي وتحت مظلّة الأمم المتحدة، وأي تسوية بدون غطاء دولي مصيرها الفشل، ولذلك لا بدّ في النهاية من تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الذي صَدَرَ في 11 أب عام 2006 باجماع الأعضاء الخمسة عشر، ففي ظلّ الوضع الدولي الحالي فإنه قد يكون من الصعب التوافق على إصدار قرار دولي جديد، كما وأنه وفق المادّة 25 من ميثاق الأمم المتحدة فإن لبنان والعدو الإسرائيلي مُلزمان بشكلٍ غير مباشر بقبول القرار 1701 إذ تُشير هذه المادّة حرفيّا إلى ما يلي: “يتعهّد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق”، علمًا أن الحكومة اللبنانيّة ناشدت وتناشد دومًا بتطبيق هذا القرار.
وبعد عقود من النزاع اللبناني – الإسرائيلي، بات من الواضح،بحسب الجميل، أن إشكالات الحدود البريّة الجنوبية للبنان وهضم حقوقه في مساحات من أراضيه، هي مصدر أساسي وكبير للخلافات منذ إنسحاب العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان، وقد بات حلّ هذا الموضوع بشكلٍ نهائي ملحًا جدًا، والطرح اللبناني الرسمي لإعادة التأكيد على تثبيت حدوده البريّة الجنوبيّة واضح جدًا وقانوني ومحقّ.
فبالنسبة لحدود لبنان البريّة مع فلسطين فالحلّ، كما يقول العميد الجميل، هو بالعودة إلى خطّ حدود إتفاقيّة بوليه – نيو كمب عام 1923، والذي أكّدت عليه إتفاقيّة الهدنة عام 1949، وهذا ما أكّدت عليه أيضًا المادّة الخامسة من القرار 1701، إذ نصّت حرفيًا على ما يلي: ” يُعيد مجلس الأمن تأكيد تأييده الشديد لسلامة أراضي لبنان وسيادته وإستقلاله السياسي داخل حدوده المُعتَرَف بها دوليًا، حسب الوارد في إتفاق الهدنة العامّة بين إسرائيل ولبنان المؤرّخ في 23 أذار 1949″. وهذا يعني بالنسبة للبنان إستعادة مناطق التحفّظات على الخطّ الأزرق (المناطق المحتلّة من قبل إسرائيل)، والبالغ عددها 13 منطقة بمساحة إجماليّة تبلُغ حوالي 485 ألف مترًا مربّعًا، وكذلك تراجع إسرائيل عن مناطق الخرق الدائم للخطّ الأزرق والتي تحتلّها على إمتداد خطّ الهدنة والبالغ عددها 17 خرقًا دائمًا بمساحة حوالي 17 ألف مترًا مربعًا.
امّا من ناحية الحدود الدوليّة مع سوريا لجهّة الجولان السوري المحتلّ، فلبنان يُطالب المجتمع الدولي أيضًا بإستعادة الأراضي اللبنانيّة المحتلّة من قبل إسرائيل في قرية الماري اللبنانيّة والتي تبلغ مساحتها حوالي 716 ألف مترًا مربعًا، وهو خرق إسرائيلي دائم للخطّ الأزرق شمالي قرية الغجر السوريّة المحتلّة أيضًا من قبل إسرائيل، وهذا ما أشارت إليه مقدّمة قرار مجلس الأمن الرقم 2695 عام 2023 والتي نصّت على ما يلي ” يُعرب (مجلس الأمن) عن القلق إزاء إستمرار الوجود الإسرائيلي في شمال قرية الغجر والمنطقة المتاخمة لها شمال الخطّ الأزرق”، وكذلك يطالب لبنان الرسمي المجتمع الدولي بمعالجة قضيّة إستعادة مزارع شبعا اللبنانيّة المحتلّة، وهو الأمر الذي أشارت المادة العاشرة من القرار 1701 إلى ضرورة معالجته.
أمّا بالنسبة لتصريح وزير الطاقة الإسرائيلي “أيلي كوهين” بتاريخ 29 أيلول 2024، والذي قال فيه أنه “يبحث عن طريقة أو ثغرة لإلغاء اتفاق الغاز الفاضح الذي تم توقيعه مع لبنان”، فهو طرح، كما يؤكد الجميل، غير قانوني بشكلٍ فاضح، لأن هذا الأمر لا يُمكن تنفيذه واقعيًا بالنسبة للقانون الدولي. وبغضّ النظر عن الإجحاف اللاحق بلبنان من جراء هذا الإتفاق البحري، فقد أصبح الخطّ الرقم 23 هو حدود الدولة اللبنانيّة البحريّة الجنوبيّة منذ توقيع هذا الإتفاق بتاريخ 27 تشرين الأول عام 2022، مع العلم أن إسرائيل قامت بإيداعه من جانبها لدى الأمم المتحدة، ولا يُمكن قانونًا إلغاء هذا الإتفاق إلّا بموافقة الطرفين، ونقض هذا الإتفاق غير المباشر – الذي أُنجِزَ بضمانة ووساطة الولايات المتحدة الأميركيّة – من طرفٍ واحد، أي من جهّة إسرائيل وإعتمادها خطّ حدودي بحري أخر، سيكون بمثابة إحتلال لمساحات من المياه البحريّة اللبنانيّة وإنتهاكًا لسيادة لبنان وفق مندرجات القانون الدولي.