منذ أن أطلق “جبهة الإسناد” في الثامن من تشرين الأول 2023، دأب “حزب الله” على إصدار بيانات النعي لكلّ الشهداء الذين كانوا يسقطون، أو “التبريك” كما يحلو لبعض المحسوبين عليه وصفها، مرفقة بصورهم الشخصيّة، وفق صيغة أضحت موحّدة عنوانها “ارتقى شهيدًا على طريق القدس”، استكمالاً لنهجٍ لطالما اعتمده، حتى خلال مشاركته في الحرب السورية، احترامًا لكلّ الدماء التي تسقط على أرض المعركة.
وفي معركة “طوفان الأقصى”، أصرّ الحزب على اعتماد هذا التكتيك بشكلٍ مضاعَف، للتأكيد على “صدقيته” في وجه “التكتّم” الذي يعتمد العدو الإسرائيلي، الذي يتكتّم بصورة عامة على خسائره، ولا يفصح عن قتلاه وجرحاه إلا فيما ندر، وهو ساوى بهذا النهج بين العناصر والقادة الذين كانوا يستشهدون، من دون أن يتأخر في الإعلان، حتى حين كان الإسرائيليون ينتظرون مثل هذا الإعلام، لتقييم “نجاح” عمليات الاغتيال التي كانوا يقومون بها.
إلا أنّ شيئًا ما تغيّر منذ التاسع والعشرين من أيلول الماضي، اليوم الذي نعى الحزب فيه كلاً من القائد الجهادي علي كركي، والشيخ نبيل قاووق، بعد نحو 24 ساعة على نعيه لأمينه العام السيد حسن نصر الله، ليكتفي بعد ذلك بالبيانات العسكرية، التي تكثّف حضورها، مقابل غياب تام لبيانات النعي، رغم الدعاية الإسرائيلية المستمرّة عن قتل عناصر من الحزب، سواء بالعمليات التي يصنّفها “دقيقة”، أو بالمعارك البرية التي يخوضها جنوبًا.
لماذا توقف “حزب الله” عن نعي شهدائه؟
ليس خافيًا على أحد أنّ اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله كان نقطة فاصلة بين مرحلتين، ولا سيما أنّ الحزب بقي حتى لحظة الجريمة الصادمة والغادرة، يتعامل مع الضربات الإسرائيلية على قساوتها، وفق منطق عدم الانجرار إلى حرب واسعة، ولو أنّ الأمور بدأت تتغيّر عمليًا بعد مجزرتي البيجر وأجهزة الاتصال، وصولاً إلى “مجزرة وحدة الرضوان”، وبعدها القصف الإسرائيلي غير المسبوق للمناطق الجنوبية.
لكنّ النقطة الفاصلة عسكريًا، كانت أيضًا نقطة فاصلة إعلاميًا، لتتغيّر معها طبيعة بيانات الحزب بالمُطلَق، فتزداد البيانات العسكرية بشكل تصاعدي، تسرّبت منه رسالة “ضمنية” من المقاومة بأنّها تحتفظ بأوراق قوتها، وأنّ وتيرة عملياتها ارتفعت، بدل أن تنخفض، وفي المقابل، توقّفت بيانات نعي الشهداء عن الصدور، حتى إنّ الحزب لم ينعَ مرافقي السيد نصر الله الذين استشهدوا معه، مكتفيًا بنعيه مع القائد العسكري الكبير علي كركي.
ويتحدّث العارفون عن أبعادٍ عدّة خلف قرار عدم إصدار بيانات النعي، بينها ما يرتبط بالمواجهة العسكرية مع العدو الإسرائيلي، ليس فقط وفق قاعدة “التكتم بالتكتم” فحسب، على طريقة المعاملة بالمثل، ولكن أيضًا لإبقاء الغموض البنّاء إزاء العمليات التي يقوم بها الإسرائيلي، والتي ينتظر في الكثير من الأحيان إعلانًا من “حزب الله” لتقييم الموقف، علمًا أنّ هذه الاستراتيجية سبق أن اعتمدها الحزب أيضًا في حرب تموز 2006 إلى حدّ بعيد.
جزء من “الحرب النفسية”؟!
إلى الأبعاد العسكرية للتكتيك المستجدّ من جانب “حزب الله”، يؤكد العارفون أنّ عامل “الحرب النفسية” يحضر أيضًا بقوة خلف القرار، سواء على مستوى المواجهة مع العدو، ربطًا بما سبق، وبالتالي عدم الكشف عن كلّ الأوراق، وحفظ عنصر المفاجأة، فضلاً عن عامل “الندية”، وسواء على مستوى “رفع معنويات الجمهور”، في ظلّ الانطباع “السلبي” الذي قد يولّده عدد الشهداء المرتفع، بالمقارنة مع ما يُسمَح بالكشف عنه إسرائيليًا.
ويقول العارفون بأدبيّات “حزب الله” إنّ قيادة الأخير تدرك وجود نوع من “الإحباط” لدى جمهور الحزب، خصوصًا بعد الاغتيالات التي أقدم عليها العدو في الآونة الأخيرة، والتي توجّها باغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، وربما خليفته السيد هاشم صفي الدين، في ظلّ الغموض المستمرّ حول مصيره، وبالتالي فإنّ العمل على المستوى “النفسي” لا يقلّ أهمية عن المجريات الميدانية للمعارك على الأرض، خصوصًا في الجنوب.
لهذه الأسباب، يقول العارفون إنّ التركيز على العمليات العسكرية، والإنجازات التي تتحقّق على الأرض، خصوصًا على مستوى التصدّي للتوغل الإسرائيلي البرّي، يكتسب أهمية استثنائية في هذه المرحلة، على مستوى “الحرب النفسية” مع العدوّ في المقام الأول، ولكن أيضًا على مستوى “التعبئة الداخلية”، إن صحّ التعبير، ولا سيما أنّ الحزب يعرف أنّ صمود الشعب قبل المقاومة، وقدرته على الصبر والتحمّل، هو جزء لا يتجزأ من المعركة.
يؤكد العارفون أنّ عدم نعي الشهداء أولاً بأول، لا يعني أنّ “العدّاد” قد توقف فعليًا، فالحزب لطالما قال إنّه يفخر بشهدائه، وإنّ دماءهم جميعًا غالية بالنسبة إليه، ومن دونها لا يتحقّق شيء، وهو لا يزال ثابتًا على موقفهم المتناغم مع مفهومه للشهادة وللتضحية. لكنّ الحزب يعتبر في الوقت نفسه، أنّ لكلّ معركة ظروفها، التي تحكم “التكتيكات” المرتبطة بها، “تكتيكات” قد تستغرق بعض الوقت لفكّ شيفرتها!