صحيح أنّ “زخم” العدوان الإسرائيلي على لبنان لم يخفّ مطلقًا منذ “مجزرة البيجر” قبل شهر بالتمام والكمال، حيث أضحى القصف العبثي والعشوائي عابرًا للمناطق، وقد شمل العاصمة بيروت، فضلاً عن مناطق شمالية، إلا أنّ الأيام الأخيرة حملت تغييرًا ولو “طفيفًا”، أدّى إلى “تحييد”، ولو نسبيّ، لبيروت وضاحيتها الجنوبية بفعل ما وُصِف بـ”الضمانات الأميركية”، بعد اعتراض واشنطن على القصف المركّز على العاصمة.
لكن، يبدو أنّ هذه “الضمانات” التي وصلت إلى المسؤولين الرسميين، بحسب ما أكّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لم تصمد طويلاً، إذ تجدّد صباح الأربعاء القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية بعد توقف لأيام، وذلك من دون إنذار مسبق، ومن دون أن يأخذ شكل “استهداف دقيق” وفق التوصيف الإسرائيلي، الذي يحاول إعطاء “مبرّر” للضربات الإسرائيلية، على شكل “اغتيال” هدف محدّد، يمكن أن يكون قياديًّا ما في “حزب الله”.
وبالتوازي مع تجدّد الاستهداف غير الدقيق للضاحية الجنوبية لبيروت، استمرّت المجازر الإسرائيلية التي وقعت أشدّها في النبطية، حيث استهدف العدوان الإسرائيلي عمدًا اجتماعًا لخليّة الأزمة في بلدية النبطية، ما أدّى إلى استشهاد رئيس البلدية وعدد من أعضائها والموظفين فيها، في جريمة لا يمكن إدراجها في خانة الادعاءات الإسرائيلية المتكرّرة حول استهداف ترسانة الأسلحة العائدة لـ”حزب الله”، أو حتى البنية التحتية الخاصة به..
ردّ على خطاب الشيخ قاسم؟
جاء تجدّد القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية لبيروت، كما مجزرة النبطية، معطوفة على سلسلة من الجرائم الإسرائيلية التي لا تتوقف، بعد 24 ساعة على خطاب نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، الذي أعلن فيه الدخول في “مرحلة جديدة” من الحرب عنوانها “مواجهة العدوان”، وأطلق معادلة سمّاها “إيلام العدو”، انطلاقًا من العملية في حيفا، ما دفع كثيرين إلى الربط بين الأمرين، وكأنّ ما أقدمت عليه إسرائيل “رد ضمني” على كلام قاسم.
وفقًا لأصحاب هذا الرأي، فإنّ العدو الإسرائيلي أراد أن يردّ “بالنار” على ما أدلى به الشيخ قاسم، وبالتالي القول إنّه يتنصّل من أيّ اتفاقات قد تكون حصلت تحت الطاولة، علمًا أنّ ضرب الضاحية بعد أيام من التوقف، ومن دون أهداف حقيقيّة “مستحقّة”، إن جاز التعبير، قد يكون بحدّ ذاته “رسالة” بأنّ العدو مستعدّ للعودة لنهج القصف المركّز على الضاحية، وربما بيروت أيضًا، في حال مضى “حزب الله” بتهديداته التي عبّر عنها الشيخ قاسم.
أكثر من ذلك، قد يكون حديث نائب الأمين العام لـ”حزب الله” في خطابه الأخير عن أنّ كلّ أراضي فلسطين المحتلة هي تحت مرمى نار صواريخ المقاومة، طالما أنّ كامل لبنان يتعرّض للاستهداف الإسرائيلي، قد يكون من أسباب التكثيف الإسرائيلي للغارات، علمًا أنّ الإسرائيليين لم يوفّروا الشيخ قاسم نفسه من تهديداته، إذ قال الرئيس إسحاق هرتسوغ في معرض تعليقه على خطابه إنّه “ليس مخطئًا فحسب، بل أعتقد أن يومه سيأتي أيضًا”.
نهج إسرائيلي “دموي”
يقول العارفون إنّ مثل هذه المقاربة التي تحاول وضع التصعيد الإسرائيلي في إطار “الردّ” على خطاب من هنا أو هناك، لا تعكس الحقيقة والواقع، بل قد تشكّل في مكانٍ ما “خدمة” للدعاية الإسرائيلية المضلّلة، التي تحاول تصوير كلّ الحرب التي تشنّها على لبنان، وقبله على غزة، وكأنّه مجرد “دفاع عن النفس”، أو “ردّ” على الآخرين، في حين أنّ القاصي والداني يدرك أنّ المقاومة هي ردّ الفعل، وقد نشأت كنتيجة لممارسات الاحتلال، وليس العكس.
وإذا كان صحيحًا أنّ “حزب الله” هو الذي فتح “جبهة الإسناد” لغزة قبل أكثر من عام، رفضًا لاستفراد إسرائيل بالشعب الفلسطيني المُحاصَر في غزة، ومن باب دعم القضية الفلسطينية، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ الأطماع الإسرائيلية بلبنان لم تتوقف يومًا، علمًا أن نظرية أنّ “الدور على لبنان” لم يكن ليتأخّر بغضّ النظر عن الإسناد وجبهاته، تبدو واقعيّة، خصوصًا بعدما تبيّن أنّ التخطيط الإسرائيلي للضربات ليس ابن ساعته، بل وليد سنوات طويلة.
أكثر من ذلك، يلفت العارفون إلى أنّ النهج “الدموي” من الجانب الإسرائيلي بدأ منذ الأيام الأولى للحرب، حيث ارتكب العدو المجازر من دون أيّ اعتبار لا لقواعد اشتباك ولا لغيرها، كما أنّ “بنك أهدافه” بات يتقدّمه المدنيون، ولا سيما الأطفال، بعكس ما يروّج، من دون أن ننسى مخططاته “الخبيثة” التي تكشف عنها ضرباته في مناطق كان يفترض أن تكون “آمنة” على غرار العاصمة بيروت، فضلاً عن مناطق في الشمال كجرود البترون وإيطو في قضاء زغرتا.
في النتيجة، يقول العارفون إنّ الوقوع في “فخّ” الرواية المضلّلة، عبر تحويل الضحية إلى جلاد، والجلاد إلى ضحية، ليس سوى هدف إسرائيلي آخر مستتر من الحرب، لا يجوز تمريره مرور الكرام. أما الردّ الأقوى والأمتن على كلّ هذه الممارسات، فلا يكون سوى بتحصين “الوحدة الوطنية”، التي تبدو للأسف غائبة أو مغيّبة، وكأن هناك من يغلّب الانقسام الداخلي، حتى على صعيد مواجهة عدوان، يتّفق الجميع على حجم وحشيّته!