خمسون عاماً على الحرب… لم تنته بعد

13 أبريل 2025
خمسون عاماً على الحرب… لم تنته بعد


في مثل هذا اليوم من عام 1975، اندلعت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، حرب استمرت خمسة عشر عاماً وخلّفت وراءها آلاف الضحايا والمفقودين، ودمرت ما تبقى من نسيج اجتماعي كان هشاً أساساً. ومع حلول 13 نيسان من كل عام، يُطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل يُمكن أن تتكرر الحرب خاصة في ظل الانقسامات السياسية والطائفية؟ وهل السلاح المتفلت الصغير يشكل وقوداً جديداً لنار قد تشتعل في أي لحظة؟

رغم مرور نصف قرن تقريباً على حادثة “باص عين الرمانة”، ليس هناك من رواية وطنية موحدة بل تعيش كل طائفة متمسكة بروايتها، وتربي أبناءها على نسختها. ومع ذلك فإن الرواية التي تداولتها الجهات الرسمية اللبنانية في ذلك الوقت، وجرى تكرارها لاحقاً في العديد من المصادر، تقول إن: الخلاف بدأ عند الساعة 11 صباحاً تقريباً حيث كان مقرراً يومذاك أن يبدأ احتفال تدشين كنيسة سيدة الخلاص للروم الكاثوليك في شارع مار مارون المتفرع من شارع بيار الجميل بحضور الشيخ بيار الجميل، حين نشب شجار بين أحد عناصر منظمة فدائية فلسطينية وبعض سكان عين الرمانة، ما أدى إلى إصابته ونقله إلى المستشفى. وبعد وقت قصير، مرت سيارة من نوع فيات، فجرى تبادل إطلاق نار بين ركابها وبين شبان في المنطقة، مما أدى إلى مقتل جوزف أبو عاصي، وهو من سكان المنطقة، وعضو في حزب الكتائب. فتصاعد التوتر بسرعة ثم مرت حافلة تقلّ فدائيين فلسطينيين عائدين من احتفال بذكرى “شهداء الخالصة”، فتعرضت لإطلاق نار، مما أدى إلى مجزرة راح ضحيتها 22 شخصاً، معظمهم من ركاب الباص وبعض المدنيين في الشارع. والرواية هنا تشير إلى أن حزب الكتائب تصرف كرد فعل لا كمبادر.

أما الرواية التي رواها مصدر مسؤول في منظمة التحرير الفلسطينية ونشرتها جريدة السفير في 14 نيسان 1975، فتشير إلى أنه عند الساعة 11:30 صباحاً، تعرضت سيارة تابعة للثورة الفلسطينية للاحتجاز من قبل عناصر مسلحة من حزب الكتائب في منطقة عين الرمانة، ثم أُطلق النار على سائقها. وعند حوالي الساعة 1 ظهراً، مرت حافلة تقلّ فلسطينيين عائدين من احتفال بذكرى “شهداء الخالصة”، وفي طريقها إلى مخيم تل الزعتر، تعرضت الحافلة لإطلاق نار كثيف من كمائن كانت معدّة مسبقاً من قبل حزب الكتائب، بحسب هذه الرواية، فإن ما حدث كان كميناً مخططاً وموجهاً ضد الفلسطينيين، وليس نتيجة رد فعل عفوي.

المهم أن الحرب انتهت شكلاً باتفاق الطائف، لكنها لم تنته فعليا في الوجدان اللبناني. فبعد اتفاق الطائف، انتقل الصراع من الشارع إلى المؤسسات. الطوائف التي كانت تتقاتل بالسلاح أصبحت تتقاسم السلطة بالاتفاق والترضية، لا بالكفاءة والمعايير. المحاصصة الطائفية أصبحت سلاحاً بديلاً، تقسم البلاد من الداخل، وتُضعف مؤسسات الدولة بدل أن تقوّيها.

لا مصالحة وطنية حقيقية، ولا محاسبة، ولا حتى رواية موحدة لما جرى. الأجيال الجديدة لا تعرف إلا القليل عن تلك المرحلة، لكن ما يعيشه اللبنانيون اليوم من أزمات، يعيد إلى الواجهة مخاوف الماضي لا سيما وأن أطرافاً سياسية تتخوف من خطاب مكون سياسي يحاول البناء على ما خلفته الحرب الإسرائيلية على لبنان من تقويض لنفوذ حزب الله الذي للمناسبة لم ينجح في السنوات التي سبقت 2023 من تبديد هواجس الطوائف اللبنانية لا سيما المسيحية منها.

المهم اليوم، أن من عايش تلك المرحلة يرى أن هناك عوامل تحدّ من تكرارها بالمعنى الكارثي نفسه وتتصل بالوعي الشعبي المختلف، فالكثير من اللبنانيين يعتبرون أنه لا يجب العودة إلى الحرب الأهلية، الظروف الإقليمية والدولية اليوم مختلفة عن تلك التي سادت في السبعينيات، والاهم يتمتل بالتوازنات الداخلية الهشة فكل الأطراف تعلم أن الحرب لن تكون رابحة لأي طرف إذا لم يمدها الخارج بالعتاد والمال.

ولأن لحرب الأهلية اللبنانية لم تنته فعلياً بل تغيّرت أدواتها من البندقية إلى الخطاب من المتاريس إلى الشاشات من المعارك إلى المحاصصة من الرصاص إلى الفقر الجوع، فإن المطلوب اليوم ليس فقط سحب السلاح من الشارع، بل استعادة الدولة لدورها وهيبتها وإجراء مصالحة وطنية حقيقية، تبدأ بالاعتراف بالأخطاء، وتعتمد العدالة الانتقالية طريقاً لتضميد الجراح فضلاً عن خطاب سياسي جديد، يضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار. فالاستقرار السياسي لا يصنع فقط بوقف إطلاق النار، بل ببناء دولة مدنية عادلة وقادرة، تخرج لبنان من منطق غلبة طائفة على أخرى، ولأن الواقع الراهن سيبقى مستمراً حتى إشعار آخر.