وسط العواصف التي تخنق بيروت، لا يبدو أن الغبار في سمائها يقتصر على الطقس وحده. فالمناخ السياسي في العاصمة يزداد ضبابية، ومصير جلسة مجلس النواب بات معلقاً على حبال الاعتراض البيروتي المتصاعد على محاولة تمرير مشروع قانون “اللوائح المقفلة” في الانتخابات البلدية، وكأن بيروت حقل تجارب دائم لأوهام التوافق المصطنع وتوزيع الغنائم الطائفية.
ما حصل في الأيام الأخيرة هو انتفاضة أهلية صريحة، رفض واسع من مكونات بيروت السياسية والاجتماعية والمدنية لمشروع قانون يُراد فرضه على المدينة من فوق، من دون توافق ولا حتى نقاش جدي، وكأنهم يتعاملون مع بيروت كجائزة يجب تقاسمها، لا كعاصمة تستحق إدارة نزيهة وتمثيلاً حقيقياً.
واللافت أن من وقّعوا على المشروع بدأوا يتساقطون واحداً تلو الآخر، في مشهد يُذكّرنا كيف تصنع القوانين في لبنان: أولاً بالتواطؤ، ثم بالتراجع حين تنفجر الاعتراضات.
وكعادته، تدخّل رئيس مجلس النواب نبيه بري لنزع فتيل الانقسام، مدفوعاً بحرصه الدائم على حماية التوافق الوطني وصون السلم الأهلي، لا سيما في بيروت التي طالما رآها بعينيه مدينة التعايش والتنوع، لا الانقسام والتشرذم. وكانت مصادر الثنائي أبدت اعتقادها في الأساس أن بري لن يقبل بالسير فوق إرادة البيارتة.
البيارتة قالوها بوضوح: أي قانون لا يعيد للمجلس البلدي صلاحياته، ويُبقي مفاتيح القرار بيد المحافظ، هو تكريس لوصاية لا تختلف كثيراً عن وصايات سابقة عرفها لبنان. المطلوب إصلاح حقيقي لا ترقيع، توزيع صلاحيات لا تقاسم محاصصات.
أن يُدرج هذا الاقتراح المعيب في جلسة اليوم، على الرغم من كل الاعتراضات، ليس استفزازاً وحسب، بل إعلان نوايا لتكريس واقع بلدي جديد بالقوة. لكن بيروت، التي عرفت كل أشكال الإهمال والإخضاع، أثبتت أنها ليست لقمة سائغة. الجمعيات المدنية، والمختارون، والنواب المستقلون، والناس، جميعهم باتوا في خط مواجهة مفتوح ضد محاولة الهيمنة هذه.
وإذا مضى المجلس النيابي في تمرير المشروع كما هو، فإن ما ينتظر البلاد ليس أزمة بلدية وحسب، بل أزمة شرعية، تبدأ بمقاطعة الانتخابات، ولا تنتهي برفض أي مجلس بلدي يُنتج من هذا القانون القسري.
بيروت لا تُحكم بالقسر، ولا تُختصر بلائحة، ولا تُدار بمنطق الحاكم بأمره. من يريد إدارة العاصمة، فليعد القرار الى أهلها. المعركة بدأت، ولن تنتهي بمناورة أو بتراجع في اللحظة الأخيرة. بيروت قالت كلمتها: كفى.
تعليق التحرك في بيرو
ومساء أمس صدر عن اجتماع فعاليات بيروت بيان جاء فيه: “أهلنا في بيروت، بسبب موقفكم المعارض والذي وصل إلى المعنيين، شهدت الساعات الأخيرة اتصالات رفيعة المستوى لاحتواء الأزمة وإعادة ملف بلدية بيروت وقانون اللوائح المقفلة المرفوض إلى المشاورات السياسية.
ولأن أهالي بيروت أبناء دولة، وإفساحاً في المجال أمام جهود المسؤولين الغيارى على بيروت وعلى رأسهم دولة الرئيس نبيه بري، نؤجل تحرك غد (اليوم) الخميس ونترك الأبواب مفتوحة مواكبة للجلسة، فإذا تم إقرار القانون سنكون جاهزين للتحرك. أهلنا في بيروت، صوتكم سبق تحرككم، لننتظر مفاعيل الجهود السياسية… وبناء عليه نعلّق تحركنا غداً (اليوم)”.
الصايغ يسحب توقيعه
إلى ذلك، سحب عضو “اللقاء الديموقراطي” النائب فيصل الصايغ توقيعه من القانون المقترح. وكتب عبر حسابه الخاص على “فايسبوك”: “أيّ تعديل في قانون الانتخاب لبلدية بيروت يهدف أولاً إلى تكريس وحدة المدينة وتجانس مجلسها البلدي، وثانياً إلى تأمين المشاركة الوطنية الفعلية عبر مناصفةٍ في التمثيل احترمها أبناء بيروت على مدى عقود، وثالثاً إلى تفعيل العمل البلدي عبر تنظيم الصلاحيات بين البلدية ومحافظ بيروت لتعزيز حقوق المجلس البلدي المنتخب مناصفةً في إدارة شؤون العاصمة”.
وأضاف: “من هنا جاء اقتراح القانون المعجّل المكرر متوازناً وبمادة وحيدة.. أما وقد أعلن أحد الزملاء صراحةً عن الرغبة في إقرار مادة المناصفة من دون مادة الصلاحيات التي يريد إحالتها على اللجان، ومع تأييد بعض زملائه هذا الأمر كما علمت، وتجنباً للمفاجآت، أعلن عن سحب توقيعي من الاقتراح المقدم مع الانفتاح على النقاش البناء في جلسة الغد (اليوم) توصلاً الى التعديلات المنصفة بحق أبناء بيروت بمكوناتهم كافة”.
مجلس المفتين: لا تعديل من دون إرادة البيارتة
في السياق نفسه، شدد مجلس المفتين على “أهمية إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية بكل شفافية وحرية وديموقراطية وعدالة، وهي فرصة يعبّر من خلالها المواطن عن رأيه في اختيار من يمثله لتولي المسؤولية لخدمة الناس والإنماء والمحافظة على العيش الواحد في المجالس البلدية وتعزيز صلاحياتها”، معتبراً أن “أي تعديل لمشروع قانون الانتخابات البلدية والاختيارية في العاصمة بيروت ينبغي أن يتوافق عليه النواب الذين يمثلون إرادة الشعب الذي من المفترض أن يحتكم إليه في كل القضايا التي تهم الوطن والمواطنين”.