في خضم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان، يبرز تهديد آخر يلقي بظلاله القاتمة على مستقبل البلاد: التغير المناخي. فارتفاع درجات الحرارة، وتراجع معدلات الأمطار، وتزايد موجات الجفاف والحر الطويلة، ليست سوى أعراض لتدهور بيئي يهدد صحة السكان ومواردهم الطبيعية. تتعقد هذه الأزمة بفعل التحضر السريع، وعدم الاستقرار السياسي المزمن، وانهيار مؤسسات الحوكمة، مما يجعل التصدي للتغير المناخي أكثر إلحاحًا، ولكنه في الوقت نفسه يضاعف من صعوباته. فالعدالة المناخية في جوهرها ليست مجرد مسألة بيئية، بل هي معركة ضد أوجه عدم المساواة، وضد نظام عالمي أثقل كاهل الدول الفقيرة مثل لبنان بديون مناخية هائلة.
بالتوازي مع القمم العالمية للمناخ، من قمة ريو إلى اتفاقية باريس، بدأ الوعي البيئي المحلي يتبلور في لبنان. ومع تصاعد التمويل الدولي المخصص للعمل المناخي، انخرط العديد من منظمات المجتمع المدني اللبناني في هذا الميدان، وإن كان ذلك أحيانًا مدفوعًا بإغراءات التمويل أكثر من الحاجة الحقيقية. ورغم ذلك، شهدت الساحة اللبنانية تزايدًا في ربط قضايا المناخ بحركات العدالة الاجتماعية، خاصة بعد انتفاضة 2019، حيث بات التغير المناخي يُنظر إليه كجزء من معركة أوسع ضد الفساد وسوء الإدارة. وحسب تقارير عربية واجنبية اطّلع عليها “لبنان24″ تبين أنّه على الرغم من كثافة المبادرات البيئية، تفتقر الساحة اللبنانية إلى حركة مناخية موحدة. فمعظم المنظمات تدمج قضايا المناخ ضمن عمل بيئي أشمل. وفي المقابل، نشأت مبادرات شبابية قوية توفر منصات للمطالبة بعدالة مناخية حقيقية. كما ساهمت مراكز بحثية وإعلامية في نقل الخطاب المناخي إلى مستويات سياسية واجتماعية أعمق”.
عمليا، يتعاون لبنان مع شبكات عربية، كما ساهمت مخيمات العدالة المناخية والمبادرات الشبابية الإقليمية في بناء قدرات الفاعلين المحليين. لكن اللافت أن العمل المناخي يبقى إلى حد بعيد مدفوعًا بالممولين الدوليين. ورغم ارتفاع الأصوات المناخية، لا تزال المطالب حسب هذه الدراسات في معظمها وعظية وتوعوية أكثر منها منهجية، وتتراوح بين دمج العمل المناخي في السياسات الوطنية، وتنفيذ التزامات اتفاقية باريس. كما يُصر النشطاء على ضرورة أن تتحمل الدول الصناعية الكبرى مسؤوليتها التاريخية عبر تقديم تمويلات عادلة ونقل التكنولوجيا للدول النامية. بيد أن التركيز الأبرز محليًا لا يزال منصبًا على قضايا الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، وإدارة المياه، لا سيما مع تدهور قدرة لبنان على تأمين الكهرباء والمياه في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة.
“لبنان24” تواصل مع الباحث في شؤون المناخ والبيئة، عبدالله سكّر الذي أشار إلى أن النشاط المناخي في لبنان يواجه سلسلة من التحديات المعقدة، بدءًا من التفكك السياسي والفساد المستشري، مرورًا بضعف القدرات والموارد المتاحة، وصولًا إلى الاعتماد المفرط على التمويل الأجنبي الذي يفرض أجندات قد لا تتناسب مع السياقات المحلية.
أضاف:”كما أن غياب التنسيق الداخلي بين المنظمات والمبادرات، وتفاقم الانهيار الاقتصادي الذي أدى إلى تآكل القدرات التنظيمية لمنظمات المجتمع المدني، يزيد من صعوبة المواجهة”.
وعلى الرغم من نجاح النشطاء في رفع مستوى الوعي بقضايا البيئة والمناخ، إلا أن ترجمة هذا الوعي إلى تغييرات فعلية في السياسات لا تزال محدودة للغاية. فالتغير المناخي، رغم خطورته، يبقى في نظر القوى السياسية ملفًا ثانويًا، يغرق في أولويات أكثر إلحاحًا كالأمن والكهرباء والاقتصاد. ومع ذلك، تُظهر تحركات مثل اتهام لبنان لإسرائيل بارتكاب “جرائم بيئية” في مؤتمر “كوب28” أن البيئة والمناخ قد يصبحان مستقبلاً سلاحًا دبلوماسيًا بيد لبنان على الساحة الدولية.
في غضون ذلك، دق سكّر ناقوس الخطر بعد النتائج الخطيرة التي سجلها العام الماضي، لا سيما في ظل تحديد اتفاقية باريس 2015 مساراً عالمياً لاحتواء ارتفاع متوسط درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، بهدف تجنب الكوارث المناخية الأكثر تكلفة وخطورة، وقال:” في ظلّ تغيّر أنماط الطقس بشكل حادّ، تعصف آثار تغير المناخ إلى جانب أزمات داخلية خانقة وتغير مناخي متسارع بلبنان، متسائلا:” هل يتمكن اللبنانيون من تجاوز خلافاتهم وتوحيد جهودهم لمواجهة هذا الخطر الوجودي المحدق؟ وهل تستطيع الدولة اللبنانية، بمواردها المحدودة وقدراتها المتواضعة، أن تتبنى سياسات فعالة للحد من التغير المناخي والتكيف مع آثاره؟”.