في زاوية خفيّة من شبكة الإنترنت، بعيدًا عن الأضواء، يتحوّل عدد متزايد من الشباب اللبناني إلى لاعبين بارزين في المشهد السيبراني الإقليمي. إنهم ليسوا مجرّد هواة يبحثون عن تحدٍّ تقني، بل مواهب لافتة، تستقطبهم جهات خارجية، وتستثمر في قدراتهم، فيما يبقى لبنان عاجزًا عن احتضانهم. وراء كل شاشة، عالم كامل من الفرص المفتوحة أمام خبير الأمن السيبراني اللبناني. في هذا الحقل غير التقليدي، قد يبدأ الشاب بشغف التجربة والاكتشاف، لكنه سرعان ما يجد نفسه امام فرص عمل إلكترونية دولية. الجهات التي تبحث عن خبرات سيبرانية لا تُعدّ ولا تُحصى: من شركات أمن معلومات عملاقة، إلى أطراف إقليمية تسعى لتعزيز دفاعاتها أو حتى تنفيذ عمليات رقمية هجومية. الأجور مرتفعة، والطلب في تزايد، والأدوات متطوّرة. الإغراءات كثيرة، بدءًا من الدعم اللوجستي، وصولًا إلى التدريب والتأهيل المستمر. إنها مهنة استثنائية بامتياز، لكنها ما زالت مجهولة في لبنان، ومحرومة من أي مسار رسمي للاحتراف أو الاحتضان.
“لبنان24″ تواصل مع شاب لبناني، بنى نفسه بنفسه، ويعمل من غرفة صغيرة في منزله مع أهم الشركات الاجنبية المتواجدة في بلد عربي. يسرد رامي (اسم مستعار) البالغ من العمر 28 عامًا لـ”لبنان24” بداياته البسيطة، إذ يقول: “بدأتُ بتعلُّم الاختراق في مقاهي الإنترنت عندما كنتُ مراهقًا. لم أكن أبحث عن شهرة، كنتُ فقط أُجيد التعامل مع الكود أكثر مما أجيد التعامل مع الواقع من حولي”. أجريت أبحاثا كثرة، وعلمت أن هذا المجال قد يدخلني إلى عالم واسع من المال والإثارة في الوقت نفسه.
رامي اليوم يعمل ضمن شبكة متخصّصة في الأمن السيبراني خارج لبنان. يضيف: “شركة أجنبية عرضت عليَّ وظيفة بتحفيز مالي لم أكن أحلم به هنا، بعدما تمكنت من كشف ثغرة أمنية، فقبلت. أرسلوا لي جهازًا متقدّمًا، وأدوات لا يمكنني الحصول عليها في لبنان، وكل ما يُطلب مني هو اختبار الأنظمة وتقديم تقارير، واكتشاف الثغرات، لا أكثر”.
يضيف:” لكن الأمر لم يتوقّف عند ذلك. العمل في هذا المجال فيه إثارة لا توصف. كل مهمة تختلف عن الأخرى. أحيانًا أُطلب لاختبار بنك، وأحيانًا شركة طيران. أشعر أني داخل فيلم تجسّس، لكن كل شيء حقيقي”.
وعن بداياته، يقول: “كل شيء بدأ من اليوتيوب. تابعت فيديوهات عن الاختراق الأخلاقي، ثم دخلت إلى منتديات متخصّصة، وتعلّمت من الأجانب. هناك مجتمعات رقمية تساعدك خطوة بخطوة. اليوم هناك أدوات مجانية ومفتوحة المصدر، يمكن لأي شاب أن يبدأ بها”.
ويُضيف: “رسالتي لأي شاب عنده شغف: لا تنتظر جامعة أو شهادة. الإنترنت مفتوح. تعلّم. اختبر. راكم سمعتك على مواقع مثل “Hack The Box” أو “TryHackMe”. العالم كله قد يفتح لك بابه من وراء شاشة واحدة”.
ويقول:” أي ثغرة يستطيع أيٌّ كان كشفها يجب الا يتردد في إبلاغ الشركات المعنية، لان ذلك يساهم في تسليط الضوء على موهبته، وهذا ما سيدفع بالشركة إلى التواصل معه وتأمين فرصة استثنائية في العالم الرقمي”.
هذا الشاب ليس حالة فردية. ففي ظل انهيار البنية التحتية التعليمية والتقنية في لبنان، وتراجع فرص العمل، يجد الكثير من الهاكرز اللبنانيين أنفسهم بين خيارَين: الانزواء أو الهجرة الرقمية.
في هذا السياق، يؤكد خبراء أنّه بات من الضروري أن تُخلق هيئة وطنية متخصّصة قادرة على مراقبة هذا النوع من النشاط أو دعمه بشكل ممنهج. والمؤلم هو أننا لا نُدرك قيمة هؤلاء الشباب إلا بعد أن ينجحوا في الخارج، فمنهم من يعمل في فرق الأمن السيبراني لشركات كبرى، وآخرون يُستخدمون في اختراقات تُوظَّف سياسيًا، وكل هذا يجري بينما الجامعات هنا تُقفل مختبراتها بسبب نقص التمويل.
إنها قصة هروب أدمغة من نوع آخر. ليست هجرة جوازات سفر، بل هجرة عقول من دون أن تُغادر أرض الوطن. الهاكر اللبناني بات مطلوبًا في الخارج، لكن بلده لا يطلبه. فهل نُدرك قريبًا أن هذه العقول ليست تهديدًا، بل فرصة ضائعة؟