تكاد مفاعيل “الحروب البلدية” تنتهي بعد الانتهاء من المرحلة الثانية، أي انتخاب رؤساء الاتحادات البلدية. وبانتهاء هذه المرحلة تعود القوى السياسية إلى خلواتها الداخلية لإجراء قراءة متأنية وهادئة لما أفرزته هذه “الحروب” من نتائج، وما يمكن التأسيس عليه لـ “الحرب الكبيرة” في أيار المقبل، التي من المفترض أن يبدأ الإعداد لها فور الانتهاء من فرز السلبيات والإيجابيات في عملية دقيقة وموضوعية بعيدًا عن “العنتريات”، التي رافقت إعلان بعض النتائج، وبالأخصّ في ضوء ما أسفرت عنه بعض التحالفات الظرفية، التي رجّحت كفّة على أخرى في “معارك” رؤساء الاتحادات البلدية، والتي يُعَّول عليها كثيرًا لتحديد الأحجام الحقيقية لكل طرف، وبالأخصّ على الساحة المسيحية، باعتبار أن الساحات الأخرى محكومة بمدى تأثّرها بما تشهده المنطقة من تغييرات ستكون لها حتمًا انعكاسات على المشهد اللبناني الداخلي.
فعلى الساحة المسيحية يُتوقّع أن يأخذ التنافس بين حزب “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” أشكالًا مختلفة، ومن أبرزها “الحروب” الكلامية، التي بدأت بينهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترة التحضير للانتخابات البلدية والاختيارية وأثناءها وبعدها، وما تضمّنته هذه الحملات المتبادلة من كلام مرتفع المنسوب، أسلوبًا ومضمونًا. وهي تؤشّر إلى أن حدة التراشق الكلامي وتبادل الاتهامات ونبش “قبور الماضي” ستشهد في مرحلة ما بعد جوجلة نتائج الانتخابات البلدية تصعيدًا قد يعيد عقارب هذه الساحة عشرات السنين إلى الوراء.
ومن المرجّح ألاّ تكون الساحات الأخرى أقّل حدّة من الساحة المسيحية، خصوصًا أن الانتخابات البلدية كشفت أمورًا لم تكن واردة سابقًا في حسابات البعض. إلاّ أن هذه الحدّة تبقى محدودة ومضبوطة قياسًا إلى ما تشهده الساحة المسيحية من تجاذبات تتراوح بين من يصفها بأنها تدخل في إطار المنافسة الديمقراطية، فيما يرى فيها البعض الآخر تنافسًا على من سيكون في مقدمة الصفوف في الاستحقاق النيابي المقبل. وهذا التنافس قد يقود، في رأي كثيرين، إلى توترات متنقلة لن تصّب في نهاية المطاف في مصلحة المواطن المسيحي، الذي يتطّلع إلى ابعد من ظواهر الأمور، وهو الذي بات متعطّشًا إلى العيش في كنف دولة كاملة السيادة بعيدًا عن التجاذبات الظرفية، خصوصًا إذا خرجت عن الخطّ الديمقراطي السليم.
أمّا في الساحات الأخرى، فإن العودة المحتملة لتيار “المستقبل” إلى العمل السياسي بعدما عُلّق لمدة ما يقارب الأربع سنوات، قد تعيد خلط الأوراق على الساحة السنّية عشية الانتخابات النيابية، مع تراجع ملحوظ في صفوف القوى المسمّاة “تغييرية”، إضافة إلى احتفاظ المرجعيات الأساسية داخل الطائفة السنّية بمواقعها المستندة إلى تجارب ضاربة في عمق أعماق الانصهار الوطني.
وقد لا تكون الساحة الشيعية أقّل تأثّرًا من غيرها من الساحات بما طرّأ عليها من متغيّرات نتيجة الحرب الشعواء، التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان، والتي استهدفت هذه الساحة بالتحديد دون سائر الساحات. ويعتقد كثيرون أن ما حقّقه “الثنائي الشيعي” من نتائج متقدمة في الانتخابات البلدية في الجنوب والبقاع، سواء بالتزكية أو بما شهده بعض البلديات من تنافس اتخذ طابعًا عائليًا، خصوصًا في البلدات، التي تُعتبر خارج نفوذ “الثنائي”، لا ينفي إمكانية ما يتمّ التحضير له في البيئة الشيعية المعارضة، والتي بدأت تحجز لها موقعًا يمكن اعتباره متقدمًا نسبيًا.
ولا تخفي أوساط “الثنائي” قلقها من تنامي هذه الظاهرة، وبالأخصّ أن القائمين بها يحاولون الاستفادة من بعض حالات التمّلمل، التي بدأت تظهر إلى العلن حتى داخل “البيئة الثنائية”. وتخشى هذه الأوساط من أن تؤدّي هذه الحالة، في حال تصاعد وتيرتها، إلى تحقيق خرق ما، ولو بنسبة واحد في المئة، في الصفوف النيابية الـ 27 المكرّسة عرفًا لـ “الثنائي”. وفي حال حصول مثل هذا الأمر في ربيع سنة 2026، فإن المعادلات القائمة حاليًا ستشهد بعض التبدّلات في القناعات والخيارات.
أمّا على الساحة الدرزية في أقضية الشوف وعاليه وبعبدا فإن التنافس بين “التغييريين” بالمعنى الضّيق للكلمة وبين “القوى التقليدية”، وبالأخص الحزب التقدمي الاشتراكي، لم تكن له دلالات كافية لترجيح كفّة على أخرى، مع ما يعنيه هذا الأمر من أن دّفة الاستحقاق النيابي ستميل حتمًا لجهة تكريس زعامة وليد جنبلاط.