كأن هذه الحكومة التي أقرّت من حيث المبدأ الحدّ الأدنى للاجور ما يوازي 320 دولارًا في الشهر تعيش في المريخ وليس في لبنان. واعتقدت أنها حقّقت في ما أقرّته إنجازًا ما بعده إنجاز. صحيح أن وضع الخزينة اللبنانية تعبان، وأن “العين بصيرة واليد قصيرة”. ولكن الصحيح أيضًا أن هذه الحفنة من الليرات الفاقدة لقيمتها الشرائية لم تعد تكفي لشراء ما تحتاج إليه عائلة من أربعة أفراد من خبز “حاف”. فهل فكّر هؤلاء الوزراء، الذين أقرّوا هكذا “إنجاز” كيف يستطيع ربّ عائلة يعيش بخوف ربّه أن يؤّمن حاجيات عائلته من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وتطبيب، أم أنها قالت لهذا الذي يشتغل بعرق جبينه من الفجر إلى النجر “الشاطر بشطارته”. فإذا كان ربّ العائلة هذا موظفًا في القطاع العام فهذا القول يعني أن عليه “أن يبيع ضميره”، أو أن يرتشي، أو يهمل وظيفته الأساسية لأنه مضطّر لأن يفتّش عن عمل آخر من ضمن دوامه العادي في الإدارة الحكومية، التي يعمل فيها، فيقبض راتبه، الذي لم يعد يساوي شيئًا من دون أن يداوم؟
فهل بهذه الطريقة العوجاء يُعاد بناء المؤسسات الرسمية؟
كان على هذه الحكومة أن تنكّب على معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية بطريقة أخرى لكي لا تجد نفسها مضطّرة لتواجه ناسها في الشارع، الذي يبقى الحّل الوحيد بالنسبة إلى موظفي القطاعين العام والخاص. وهذه المعالجة تفرض مقاربة الأزمات المعيشية بأساليب مختلفة. وهذه المقاربة لا تكون إلاّ من خلال خطة تعافٍ متكاملة الحلول. وهذه الخطة لا تكون مجدية ونافعة إذا لم تأخذ الحكومة في الاعتبار ما يعانيه الموظفون في القطاعين العام والخاص. فمعاناة المواطنين أكثر من أن تعدّ وتُحصى. وهي ليست بنت ساعتها ولم تبدأ فقط في 17 تشرين الأول من العام 2019، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من سياسات مالية واقتصادية خاظئة منذ سنوات طويلة. وهذا الإهمال المتوالي من قِبل السلطات التي توالت على الحكم أثرّت بشكل مباشر على حياة المواطنين وكرامتهم اليومية. ومع انهيار العملة الوطنية أمام الدولار وارتفاع أسعار السلع الأساسية، لم يعد المواطن اللبناني قادرًا على تأمين حاجاته الأساسية، في ظل تدهور خدمات الدولة وغياب حلول فعلية من السلطات المتعاقبة، علمًا أن حكومة “معًا للانقاذ”، وعلى رغم أنها أمضت ما يقارب السنتين ونصف السنة في حال تصريف أعمال، حاولت بكل ما توافر لها من إمكانات محدودة أن تقّلص من منسوب الأضرار، التي كان من الممكن أن تكون أسوأ بكثير مما كانت عليه خلال هذه المدّة الأصعب في حياة لبنان.
ليس جديدًا إن قلنا أن الانهيار المالي بدأ يأخذ منحىً تصاعديًا منذ العام 2019، فتراجعت قيمة الليرة اللبنانية إلى مستويات قياسية. وهذا التراجع المخيف أدّى إلى تآكل الأجور والمدخرات، مع ما ترافق هذا الانهيار من “تطيير” “القرش الأبيض”، الذي اعتقد المواطنون أنه سيكون سندهم في “يومهم الأسود” ليكتشفوا أن كل ما أدّخروه من عرق الجبين قد تبخّر بين ليلة وضحاها، وفي غفلة من الزمن.من ومع أن الحد الأدنى للأجور لا يزال رسميًا عند مستوى منخفض، فإن معظم العاملين في القطاعين العام والخاص باتوا عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من المعيشة. وقد أصبحت الرواتب لا تكفي لأكثر من أيام معدودة، في ظل تضخم يفوق 200% في بعض السلع والخدمات.
فالعمال والموظفون الذين يعيشون ظروفًا صعبة يضطر كثيرون منهم للعمل في أكثر من وظيفة لتغطية نفقاتهم، في حين أن البعض الآخر فقد أعماله بسبب إقفال المؤسسات أو تقليص نشاطها، فيما يعيش القطاع العام بدوره شللاً شبه تام، مع تراجع الإنتاجية وهجرة الكفاءات بسبب تدني الرواتب. وما تشهده السفارات من طلبات هجرة إلى “بلاد الله الواسعة” طلبًا للعمل من قِبل الشباب المتخرجين من أهم الجامعات وبكفاءات مرتفعة لخير دليل على مدى عمق هذه الازمة.
في المقابل، وإنصافًا لا بدّ من مقاربة الموضوع من كافة جوانبه، إذ يواجه القطاع الخاص تحديات جمّة، حيث تكافح المؤسسات للبقاء والاستمرار في ظل انعدام الاستقرار المالي وارتفاع الأكلاف التشغيلية، ما ينعكس مباشرة على العمال من خلال صرفهم أو تحميلهم أعباء إضافية من دون مقابل عادل.
وأمام هذا الواقع، تصاعدت الدعوات من قبل النقابات العمالية وروابط الموظفين للمطالبة بتحسين وضعهم المعيشي، مع العلم أن ما شهده لبنان من موجات من الإضرابات والتحركات الاحتجاجية التي شملت قطاعات التعليم والصحة والإدارات الرسمية والمتقاعدين من الاسلاك العسكرية، للمطالبة بتصحيح الأجور ورفع بدل النقل وتأمين الطبابة والاستشفاء لم تجدِ نفعًا، وبقي الوضع على حاله من التآكل والانهيار.
لكن رغم الزخم الشعبي والنقابي، لا تزال السلطة السياسية تتعاطى مع هذه التحركات بنهج ترقيعي، من دون رؤية اقتصادية شاملة تعيد الثقة بالاقتصاد وتضمن العدالة الاجتماعية.
وهذا الواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه اللبنانيون يتطلب إجراءات عاجلة على أكثر من صعيد، بدءًا من إصلاح النظام المالي، مرورًا بضبط الأسعار ودعم السلع الأساسية، وليس انتهاءً بزيادة رواتب القطاعين العام والخاص بما يتناسب مع قيمة العملة وسلة الإنفاق الحقيقية.
وفي غياب هذه الإصلاحات، من المتوقع أن تستمر الدعوات للتحركات، وسط شعور عام بالإحباط والخيبة من طبقة سياسية لم تعد تعير اهتمامًا لمعاناة الناس.
فمع أنقضاء 25 في المئة من عمر حكومة الرئيس نواف سلام قرابة 25 في المئة يمكن القول أن المواطنين النازلين اليوم إلى الشارع لم يلمسوا أي إنجازات تُذكر قد تحقّقت.
الشارع يغلي فيما المعالجات الحكومية “طبخة بحص”.