في قلب الجنوب، حيث تتقاطع الرسالات السماوية، وتنبض الأرض بإرث الأئمة والبطاركة، وُلد مشهدٌ إنسانيٌ جامع يليق بأرض الإمام موسى الصدر والبطريرك أنطوان خريش. هناك، في بلدة يارون الجنوبية الحدودية التي لم تندمل جراحها بعد، اجتمعت العمائم البيضاء والصلبان في لقاء روحيٍّ فريد، حمل رسالةً واحدة: الدين يوحّد، لا يفرّق، واللبنانيون رغم كل الجراح، قادرون على التلاقي، على الحب، وعلى بناء وطنٍ يُصغي فيه المذبح إلى المحراب.
وبرعاية سفير الفاتيكان المونسنيور باولو بورجيا، وبدعوة من قائد القطاع الغربي في قوات اليونيفيل الدولية العميد نيكولا مندوليسي، فُتحت أبواب كنيسة مار جاورجيوس في يارون لاستضافة لقاءٍ جامعٍ للعائلة الروحية الإسلامية المسيحية في الجنوب. بلدةٌ ما تزال تحتفظ برائحة أهلها رغم الدمار، وتجمع في أزقتها المدمّرة بين الوردة والصلاة، بين السلام والمقاومة، بين الكنيسة والمقام، حيث يتجاور مقام الخضر ومار جاورجيوس في رمزٍ حيٍّ للتلاقي العابر للأديان.
سار ممثلو الطوائف معًا فوق الركام، حاملين رسالة السلام والمحبة من قلب المعاناة، مجسدين بصمتٍ وقورٍ أنّ لبنان لا يزال حيًّا بفضل إنسانيته لا طوائفه. وكان لهذا الحدث بعدٌ أبعد من الرمزية، إذ شكّل نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه الوطن حين تتحول الأديان من سلاحٍ في يد الانقسام، إلى جسرٍ يعبر به الإنسان إلى أخيه الإنسان.
قوات اليونيفيل، ولا سيما الكتيبة الإيطالية، لم تكتفِ بحفظ الأمن، بل تبنّت دورًا إنسانيًّا عميقًا، قدّمت من خلاله خدمات للمجتمعات المحلية، وساهمت في تعزيز الحوار والتفاهم بين مكونات المجتمع اللبناني. ولقاء يارون هذا، بما فيه من دلالات ورسائل، هو انعكاس صادق لجهودها في تحويل السلام من قرار أممي إلى ثقافة يومية تعاش وتُمارس.
وقد تُوّج اللقاء بتوقيع وثيقة محبة وسلام، أكدت على ضرورة التمسك بالأمل، والسعي المشترك نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنصافًا، رغم كل العواصف. إنه نداء مفتوح إلى الداخل والخارج، إلى الشعوب والحكومات، بأن لبنان، رغم الرماد، لا يزال يشعل شمعةً في وجه العتمة.