لم تكن سهلًة مهمة قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل) منذ 47 سنة، تاريخ إصدار مجلس الأمن الدولي في أيار من العام 1978 القرارين 425 و426 على أثر اجتياح إسرائيل للبنان بما عُرف بـ “عملية الليطاني”. فهذه القوات حاولت على مرّ هذه السنوات الطويلة أن تمارس الدور، الذي من أجله انتُبدت للقيام به، وهو تأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية، من كل شبر من الأراضي اللبنانية، واستعادة السلام والأمن الدوليين في الجنوب، وبالتالي مساعدة الدولة اللبنانية على بسط سلطتها في الجنوب.
كان من البديهي أن تقوم هذه القوات المنتدبة بموجب هذين القرارين الدوليين أن تمارس دورها كاملًا، من حيث التعاطي مع الجيش الإسرائيلي كقوة احتلال بمنطق مغاير لما قامت به على مدى هذه السنوات الطويلة. وقد تحّولت هذه القوات بسبب التباينات في الآراء بين الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي من دور فاعل إلى ما يشبه دور المراقب، وبالأخص في الفترة ما بين سنتي 1978 و1982، حيث شهدت هذه الفترة تحديات كبيرة في تنفيذ المهام الموكلة إليها، خصوصاً مع استمرار إسرائيل لاحتلالها أجزاء واسعة من الجنوب، وما أدّى إليه التحالف، الذي كان قائمًا بين الجيش الإسرائيلي و”جيش لبنان الجنوبي” آنذاك، من مضايقات واستفزازات وتعديات. وهذا التحالف حال دون تمكّن “اليونيفيل” من تنفيذ المهمة، التي من أجلها كان انتدابها إلى لبنان.
ومع اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982 في عملية أُطلقت عليها تسمية “عناقيد الغضب”، ووصولها إلى بيروت، أول عاصمة عربية يتمّ إحتلالها من قِبل العدو، أصبحت مهمة القوات الدولية أكثر تعقيدًا. وبنتيجة إقامة إسرائيل “منطقة أمنية” في الجنوب بدعم من “جيش لبنان الجنوبي”، حوصرت هذه القوات بالمناوشات بين الجيش الإسرائيلي من جهة، وبين “المقاومة الوطنية” قبل أن ينشأ “حزب الله” في مرحلة لاحقة من العام نفسه. فبقي الوضع في المنطقة الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي بين كرّ وفرّ إلى العام 2000، الذي شهد نقطة تحّول بفعل انسحاب إسرائيلي من آخر شبر كانت تحتله، مع إبقاء احتلالها لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
فبعد هذا التاريخ تمكنّت قوات “اليونيفيل” من تنفيذ رسم “الخط الأزرق”، وأصبحت بالتالي تقوم بأدوار أكثر فعالية في مساعدة الدولة على بسط سلطتها في تلك المنطقة، التي لم تستطع القيام بما يفرض عليها القانون القيام به بفعل الوجود المكثّف لعناصر “حزب الله”، الذي أخضع كامل المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني لسلطته الذاتية.
وبعد حرب تموز في العام 2006 صدر القرار 1701، الذي أعيد بموجبه تعزيز مهمة “اليونيفيل” وتوسيعها، لتشمل دعم انتشار الجيش جنوب نهر الليطاني، ومراقبة وقف الأعمال العدائية، ومنع تهريب السلاح إلى “جهات غير حكومية”، ومراقبة “الخط الأزرق” بين لبنان وإسرائيل.، بعدما ارتفع عديدها إلى أكثر من عشرة الآف جندي من جنسيات متعدّدة، وبالأخص من الدول الأوروبية.
إلاّ أن الغارات المدّمرة، التي لا تزال تقوم بها إسرائيل حتى اليوم، متخذة من تحويل “حزب الله” جبهة الجنوب إلى جبهة مساندة لفسطينيي قطاع غزة ذريعة إضافية لاعتداءاتها، قد صعّبت على قوات “اليونيفيل” مهمتها، وحوّلتها أكثر من ذي قبل إلى قوة للمراقبة ليس إلاّ، مع استمرار توتر العلاقة بينها وبين أهل الجنوب، والتي لم تخلّ على مدى سنوات من المناوشات السياسية والميدانية، والتي مرّت بمراحل متفاوتة، وشهدت تحديات كثيرة.
فهذه العلاقة بين “اليونيفيل” وبيئة “الثنائي الشيعي” شابها على مدى عقود حال من الحذر وعدم الثقة، فكان الأهالي ينظرون إلى هذه القوات نظرة شكّ بسبب عدم قدرتها على وقف الانتهاكات الإسرائيلية المتمادية، وبسبب قلّة فعاليتها، فشهد الكثير من المناطق الجنوبية تحركات للأهالي احتجاجًا على “الصمت الدولي” تجاه ما يتعرّضون له من اعتداءات إسرائيلية وحشية.
إلاّ أن هذه العلاقة المتوترة مع الأهالي لم تمنع هذه القوات من الانخراط في المجتمعات المحلية عبر أنشطة مدنية وانمائية وصحية واجتماعية ، فساهمت في إعادة تأهيل البنى التحتي، ودعمت الكثير من المدارس والبلديات، وقامت بتنظيم فعاليات ثقافية واجتماعية.
ما تواجهه هذه القوات اليوم مع اقتراب موعد التجديد لمهامها من تجاذبات دولية ومحلية يفوق بخطورته ما مرّت به خلال الـ 47 سنة الماضية، خصوصًا أن ثمة كلامًا بدأ يصل إلى مسامع المسؤولين اللبنانيين عن محاولات حثيثة لتقليص مهام “اليونيفيل”، في الوقت الذي لا يزال لبنان في حاجة إلى هذه الرعاية الدولية، أقّله كشاهد عيان على ما تقوم به إسرائيل من مجازر.