في بلدة عيناتا، جلست أم حسن، وهي سيدة خمسينية، قرب حقل التبغ المجاور لمنزلها، تُعدّ شتلات الموسم الجديد.
تنظر أم حسين إلى الدونومات التي خرّبها القصف الإسرائيلي، وكيف عبثت بها الدبابات.. تستذكر المواسم التي كانت العائلة تنتظرها.. تتذكر بحسرة وبغصة تلك الأيام، وتسترجع معها ذكريات البقاء في منزلها إبان القصف إلى أن أتت الإنذارات النهائية، حيث اضطرت حينها إلى المغادرة، فتقول لـ”لبنان24″:” ما غادرت بوقت الحرب. بقيت لحالي بعد ما راحوا الولاد. كنت آخذ المي وأسقي الزرع من ورا البيت… واليوم، رغم إنو الأرض تعبت، أنا رجعت أزرع.” تقول إنها في الأيام الأولى بعد وقف القصف، نزلت إلى الأرض، وبدأت بتفقد ما تبقّى من المحصول السابق، ثم شرعت في تنظيف الحقل، وإعادة ترتيب الأقنية والسطول.، فتقول:” حتى لو تعب جسمي، بعرف إنو الأرض إذا ما حسّت بلمسة حدا، بتموت. وأنا ما بدي شي يموت أكتر.”
تشير أم حسن إلى أنّ عودتها إلى الأرض لم تكن قرارًا اقتصاديًا بحتًا، بل “قرار بالحياة”، وهذا ما قمن به نساء كثيرات أمثال أم حسين، اللواتي عدن إلى الارض لتأكيد رسالة التشبث بالأرض مهما كان الثمن. ففي عدد من القرى الجنوبية، تشهد التعاونيات الزراعية عودة ملحوظة للنساء إلى العمل الميداني. تقول مسؤولة في تعاونية زراعية محلية لـ”لبنان24”: “النساء عدن إلى الأرض قبل أن تُمدّ شبكات الكهرباء والمياه. الزراعة كانت أول حركة في القرية بعد الصمت. الأرض التي تأذت بالقصف، كانت تنتظر من يُربّت عليها… وهؤلاء كُنّ النساء.”
تشير المعطيات غير الرسمية إلى أنّ نسبة كبيرة من الحقول الصغيرة والمتوسطة أعيد تشغيلها على أيدي النساء، لا سيما تلك التي تعنى بزراعة التبغ، الزعتر، الخضروات، والبقوليات الموسمية. ورغم هذه العودة اللافتة، لا تزال النساء يواجهن تحديات حادة: نقص البذور، ارتفاع كلفة الأسمدة، غياب الدعم الحكومي، وعدم وجود برامج مخصصة لدعم النساء العاملات في الزراعة بعد الحروب.
وسط هذا المشهد التاريخي الذي يؤرخ لنساء جنوبيات عانين لسنوات طوال، نستطيع القول أنّه حين اشتعلت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على الجنوب اللبناني، لم تكن مجرد جولة قصف عابرة، بل زلزالًا اجتماعيًا واقتصاديًا ونفسيًا طال قلب المجتمع الريفي في الجنوب، لكن ما لم يظهر في مشهد الخراب ذاك، هو التحوّل الذي أصاب بنية الصمود الشعبية، وخصوصًا في أدوار النساء. فبينما كان ينظر تاريخيًا إلى المرأة الجنوبية كـ”مُساعِدة” في الزراعة أو “ضحية” في زمن الحرب، أظهرت وقائع هذا النزاع بُعدًا آخر: النساء كنّ رأس الحربة في الحفاظ على الأرض والحياة، أولًا عبر الصمود والبقاء، ثم عبر المبادرة في إعادة إحياء الدورة الزراعية.
فمن بقيَ لم يكن فقط يحرس منزله، بل كان يعيد تعريف معنى “الانتماء”. لقد تحوّلت العودة إلى الأرض، بعد انقشاع الحرب، إلى فعل سياسي ومجتمعي ضمني: الزراعة لم تكن مجرد حاجة غذائية، بل صرخة ضد التهجير، وضد خنق القرى اقتصاديًا. النساء، كما تثبت الشهادات الميدانية، عدن إلى الحقول قبل أن تعود الخدمات، قبل أن تُرمم البيوت، لأن الأرض كانت المكان الوحيد القادر على استيعاب الألم وتحويله إلى عمل. في هذا السياق، لا يعود دور النساء محصورًا في “النجاة”، بل في إعادة إنتاج المجتمع من جديد. إذ إن الجنوب الذي استهدفه العدوان، لم يُضرب فقط بقنابل عنقودية، بل أيضًا بمحاولات تفريغه من سكانه، من اقتصاده الزراعي، من ذاكرته الجماعية. والنساء، من موقعهن كراعيات للبيت والحقل معًا، تصدّين لهذا الشكل من الإبادة الناعمة.
تجربة أم حسين ليست مجرد قصة فردية. إنها مرآة لواقعٍ كامل، حيث النساء أصبحن العنصر الأكثر مرونة وقدرة على المبادرة. ومثلها كثيرات، وجدن في الزراعة بعد الحرب لغة بقاء ومقاومة صامتة، وسط غياب شبه تام لأي استراتيجية رسمية لدعم المناطق المتضررة أو الاستثمار في الأمن الغذائي المحلي.
وفي ظل غياب الدولة، والتضاؤل التدريجي لدور الأحزاب في التنمية، بدا لافتًا أن المبادرة النسائية في استصلاح الأرض عكست قدرة كامنة على التنظيم الذاتي، وعلى إنتاج اقتصاد مصغّر داخل القرى، وإن كان هشًّا. وهو ما يطرح أسئلة مهمة حول دور التعاونيات الزراعية، ومدى الحاجة إلى سياسات عامة تراعي دور النساء في التعافي بعد النزاعات، لا سيما في البيئات الريفية.
في المحصّلة، ما جرى في جنوب لبنان ليس فقط مشهدًا إنسانيًا عنيفًا، بل تجربة اجتماعية وسياسية في كيفية التمسّك بالأرض كهوية وكمصدر رزق. والنساء الجنوبيات لم يعدن إلى الحقول فقط كمزارعات، بل كفاعلات في مقاومة من نوع جديد: مقاومة التهميش، والاقتلاع، والموت البطيء للريف