موسم سياحي يكافح رغم الصواريخ

29 يونيو 2025
موسم سياحي يكافح رغم الصواريخ

عشية عيد الأضحى، وبينما كانت المؤسسات السياحية والتجارية اللبنانية تتهيأ لواحد من أكثر المواسم ازدحاماً منذ سنوات، دوّى صوت الانفجار في ضاحية بيروت الجنوبية. ضربة إسرائيلية استهدفت مبنى سكنياً، وأطلقت معها سلسلة ارتدادات سياسية وأمنية واقتصادية، اختزلت، في دقائق قليلة، كل آمال بلد كان يتنفس من رئة السياحة. لم تكن الضربة مجرّد حادثة أمنية عابرة، بل شكّلت نقطة تحوّل ميداني ونفسي ضربت العمق السياحي للبنان، في وقت كانت فيه المؤشرات تسجّل ارتفاعاً لافتاً في عدد الوافدين، ولا سيّما من دول الخليج العربي، التي بدأت، ولو ببطء، تعيد ترميم الجسور المقطوعة مع بيروت.

ففي أيار وبداية حزيران، ازدحمت المؤسسات السياحية في بيروت وجبيل وصيدا، وأُعيد تشغيل خطوط طيران من دول انقطعت مسار الخطوط الجوية معها منذ زمن، هذا عدا عن الخطوط الجديدة التي حاولت شركة طيران الشرق الأوسط استحداثها، فيما ملأت صور السياح العرب المقاهي والمطاعم والشواطئ. بدا المشهد وكأن لبنان يستعيد نفسه، لا بفعل معجزة اقتصادية، بل عبر تنفّس اصطناعي عربي أراد إنقاذ ما يمكن إنقاذه. كان هناك ما يشبه “العفو الضمني” العربي عن فوضى لبنان، وفرصة تُمنَح له ليعود جزءاً من الخارطة السياحية لا الأمنية فقط. لكنّ ليلة العيد لم تكن عادية. فإسرائيل لم تكتفِ بالإشارات، بل أرسلت صواريخها رسالة واضحة بأن لا استقرار خارج شروطها، لا سيّما في ظل تطوّر المواجهة مع إيران، وتحوّل لبنان، كعادته، إلى ساحة للرسائل الإقليمية.

الواقع أن الضربة الإسرائيلية لم تُسقط فقط مبنى في الضاحية، بل أسقطت معه “ميزانية الأمل” التي راكمها آلاف اللبنانيين العاملين في القطاع السياحي. فالسياحة في لبنان لا تتحرك استنادًا إلى خطط حكومية أو بنى تحتية أو سياسات تحفيزية، بل وفق إيقاع سياسي وأمني خارجي. وعليه، فإنّ أي تبدّل على خط طهران-تل أبيب أو الخليج-حزب الله ينعكس مباشرة على “حجوزات الفندق”. إنّ هشاشة الأمن السياحي في لبنان ليست مجرّد نتيجة لحرب محتملة، بل هي تعبير عن غياب “مفهوم الاستقرار” من أساسه. فلا مطار بيروت يملك خطة طوارئ للأزمات الكبرى، ولا وزارة السياحة قادرة على إعطاء أي ضمانة جدية للزائر العربي، ناهيك عن تقاطع المصالح العسكرية، التي تصادر السيادة، وتحوّل القطاع السياحي إلى رهينة.

في اقتصاد شبه ميت، يبرز القطاع السياحي كخط دفاع أول. إذ بات السائح العربي، في ظل غياب السيولة والمساعدات الدولية، أهم من الدولار الآتي من صندوق النقد. هو لا يحمل فقط عملة صعبة، بل يحمل إشارات إلى إمكانات الانفراج السياسي. وبالتالي، فإن خسارته ليست فقط تجارية، بل استراتيجية. غير أن لبنان، ومن خلفه القوى التي تدير اللعبة فيه، لم يحسم يوماً موقعه بين منطق الدولة ومنطق الجبهة. كلما اقترب من استعادة “وجهه العربي” سرعان ما يُسحب من بين أيدي أبنائه ويُدفع إلى منطق الاشتباك الإقليمي. وكأنّ البلاد تعيش في صراع دائم: هل هو بلد للعيش والتلاقي، أم منصة انطلاق لصراعات لا تخصّ أبناءها؟

صحيح أن لبنان ليس طرفاً مباشراً في المواجهة الكبرى بين إسرائيل وإيران، لكن الصحيح أيضًا أنه الأكثر تأثراً بها. فكل تصعيد بين طهران وتل أبيب يترجم فوراً في سماء بيروت توتراً، وفي مطارها شللاً، وفي قطاعها السياحي شبحاً لا يُحتمل. وهكذا، تحوّل لبنان إلى الضحية الدائمة في معركة لا يملك فيها حق الفيتو، ولا حتى حق الاعتراض.
الخطوط الجوية التي توقفت، والرحلات التي أُلغيت، لم تكن مجرّد تفاصيل لوجستية، بل رسائل على أن لبنان لا يملك حرية “استقبال ضيف”. وكأنّ على هذا البلد أن يستأذن القوى الإقليمية قبل أن يفتح أبواب فنادقه.
لعلّ المفارقة الكبرى أن السائح العربي، حين يزور لبنان، إنما يمارس فعلاً سيادياً بالنيابة عنه. هو يعترف، ضمناً، بقدرة هذا البلد على النهوض، وعلى البقاء منطقة للفرح في بحر من الألم. وعندما يُمنع أو يُرهب أو يُخشى قدومه، فإن ذلك يعني أنّ الفضاء اللبناني لم يعد آمناً، لا من الانفجارات ولا من الرسائل الملغومة. السياحة لم تعد مجرّد متعة، بل مقياس لموقع لبنان في العالم. وها هو، مرة جديدة، يدفع ثمن تموضعه الغامض، وتردده المزمن، وعجزه عن فرض قواعد لعبته الداخلية. وبينما تحتدم المعارك على أرض الغير، يخسر اللبنانيون ما تبقى من رزقهم.

ما جرى هو أكثر من ضربة أمنية. هو ضربة نفسية، اقتصادية، سياسية، تستهدف ما تبقى من قدرة هذا البلد على الحياة. فحين تُقصف الضاحية، لا تسقط فقط حجارة، بل يسقط معها وهم الاستقرار. وحين يلغى موسم السياحة، لا تُلغى فقط حجوزات الفنادق، بل يُلغى ما تبقى من حلم النهوض. فمن سيقول للناس إن بإمكانهم أن يعملوا بلا خوف؟ من سيضمن أن لا تتحول مواسم الأمل إلى مواسم حداد؟ ومن سيمنع تكرار هذا السيناريو طالما أن القرار السيادي موزّع، والسلاح أقوى من الاستثمار؟
لبنان يستحق أكثر من موسم ضائع. يستحق أن يكون وجهة لا ساحة، بلداً للفرح لا مسرحاً للحروب. فلنحافظ على السياحة، لا لأنها تُدخل العملة، بل لأنها تفتح نافذة للحياة في جدار الموت المحيط بنا.