في كلّ قارة بصمة لبنانية تُرى وتُسمَع وتُتَذوَّق. من مختبرات الطبّ والهندسة إلى شركات التكنولوجيا والإعلام، ومن صالات الفنّ إلى المطابخ الرفيعة، راكمت الهجرة اللبنانية رأسمالًا إنسانيًا حول العالم: تعليم عالٍ، لغات متعدّدة، وقدرة على المبادرة في بيئات تنافسية. في الاقتصاد الخدماتي تحديدًا الضيافة، المطاعم، والفنادق، برز اللبنانيون بوصفهم بناة تجارب، لا مجرّد بائعين لطبق أو غرفة؛ نقلوا معهم تقاليد مائدة عميقة، وبلوروها وفق أذواق المدن الكبرى، فصار “التوم” و“الفتوش” و“الكبّة النيّة” أسماءً مألوفة في قاموس الذوّاقة.
ضمن هذا المشهد الواسع، تظلّ مسيرة سمير عيد مثالًا دقيقًا على كيف يصنع مهاجرٌ واحد مدرسةً كاملة في فنّ الضيافة. وصل عيد إلى الولايات المتحدة عام 1961، وبعد عقدٍ واحد أسّس مطعم Phoenicia في هايلاند بارك، قبل أن ينقله عام 1982 إلى برمنغهام في مترو ديترويت، حيث تحوّل إلى عنوان ثابت للمطبخ اللبناني الراقي. يوم الجمعة، رحل عيد عن 85 عامًا، تاركًا إرثًا امتدّ لأكثر من نصف قرن على المائدة الأميركية.
لم يكن “فينيسيا” مجرّد مطعم ناجح؛ كان ورشة بحدّ ذاته. القائمة جمعت الأطباق البيتية المنفَّذة بعناية مع قراءاتٍ حديثة لشرائح اللحم والمقبلات، ومع الوقت بات المكان مرجعًا محليًا ثم وطنيًا؛ نال إشادات من مجلات Esquire وTravel + Leisure وWine Spectator، وشاركت New York Times Cooking وصفة “التوم” الخاصة به مع جمهور أوسع، لتغدو صلصة الثوم اللبنانية مادةً “مؤرشفة” في مطبخ أميركا المنزلي.
في عام 2020، اختارت مؤسّسة جيمس بيرد سمير وابنه سامي ضمن قائمة نصف النهائي لفئة “أفضل مُطعِم/Restaurateur”، وهي من أرفع الترشيحات في عالم المطاعم الأميركي، تتويجًا لرحلةٍ انطلقت من مطبخ عائلي صغير وصولًا إلى مؤسسة تُدرِّس الضيافة بنبرةٍ لبنانية.
لكن وراء الأضواء، ظلّت فلسفة عيد بسيطة: متابعةٌ يومية للتفاصيل، حضورٌ شخصيّ في الصالة والمطبخ، وتمسّكٌ بمبدأ أن جودة المكوّنات تحكي عن نفسها. هذه “التقوى الحِرفية”، كما يصفها بعض أهل المهنة، هي ما يجعل علامةً مثل Phoenicia تعيش أطول من موضةٍ عابرة: عنوانٌ واضح، هويةٌ ثابتة، وخدمة استثنائية. حتى عنوان المطعم في 588 S. Old Woodward صار جزءًا من ذاكرة المدينة، ومرجعًا لأجيال تعرّفت إلى لبنان عبر طبقٍ مدوَّر من التبولة وملعقة “توم” بيضاء كثيفة.
إنجازات اللبنانيين في الخارج ليست سردية نوستالجية فحسب، بل هي رصيد حيّ يعود ريعه على الداخل بطرقٍ مباشرة وغير مباشرة.. فرص تدريب، شراكات جامعية، شبكات توريد، وسياحة تتقاطع فيها السيرة مع السّمعة. والقاعدة التي يعيد تأكيدها رحيل سمير عيد بسيطةٌ ومُلهمة: حين يهاجر اللبناني بعلمه وذائقته، لا يغادر وطنه، بل يحمله معه، ويعرّف به. لذلك، فإنّ الاحتفاء بسيرةٍ كهذه ليس “خبر وفيات”؛ هو تذكيرٌ بأن قوّة لبنان الناعمة تُصنع في قاعات المحاضرات كما تُصنع على طاولات المطاعم، وبأنّ اسمًا واحدًا قادرٌ على فتح أبواب مدنٍ بكاملها أمام مطبخٍ وثقافة.