الإرهاب التواصلي الجتماعي…

18 مارس 2019آخر تحديث :
الإرهاب التواصلي الجتماعي…
[author title=”روجيه عوطة كاتب لبناني ” image=”https://www.almodon.com/file/getimagecustom/8a614224-f0d3-458b-a5bd-c0ad8f9ff885/104/118″][/author]
إثر المذبحة التي ارتكبها برينتون تارانت بحق المصلين في مسجد النور بنيوزيلندا، انتشرت سردية عنه، مفادها تحميل مسؤولية تجنيده الذاتي لما يسمى الانترنت الظلامي. إذ إنه صار على وضعه بسبب زيارته المستمرة إلى عدد من مواقع اليمين المتطرف ومنصاته. لذا، وبالتوازي مع السردية هذه، ثمة دعوة إلى مراقبة ذلك الانترنت، وتنظيفه من كل ما قد يودي بزواره، أو بالتائهين في الشبكة، إلى مصير السفاح اياه.
فعلياً، تبدو هذه السردية، بالإضافة إلى واحدة أخرى حول تأثر تارانت بلعبة من ألعاب الفيديو، أنها مؤلفة لتبرئة الانترنت التنويري، الذي تتزعمه مواقع التواصل الاجتماعي، من جريمة تارانت. لكن هذه التبرئة مُحالة، لأن الإرهاب، ومثلما اقترفه السفاح، هو إرهاب فايسبوكي بامتياز.

لقد كان الإرهاب، في زمن “القاعدة”، يقع ثم يجري عرضه. ولاحقاً، في زمن “داعش”، صار يقع بعرضه. أما في زمن تارانت، فهو يقع بغاية عرضه. فعندما بث تارانت جريمته مباشرة على الهواء في “فايسبوك”، بدا أنه، وكأي مستخدم مخلص، وبالتالي خاضع، يعيش كي يصور وينشر. أي أنه، وبطريقة أخرى، يسير الآلة الزرقاء، التي من جهتها تحتضنه بحنان أغياره، الذين يتفاعلون معه. من هنا، إرهاب تارانت مصنوع لتسيير تلك الآلة، وهو، بعنفه الشديد، كان يلتزم بقانونها.

قدم تارانت تعريفاً للإرهاب الفايسبوكي، الإرهاب بعد تلفزيونية “القاعدة”، وفيلمية “داعش”، وهو الاحتفال، “فلتبدأ الحفلة”، التي، وبالتوازي مع تسليتها لممارسها، تسلي المتفرجين عليه أيضاً. لطالما كان الوقع الأساس للإرهاب حيالهم هو إفزاعهم، تهديدهم. لكن، في حالة تارانت، صار وقعه أن يخفف همهم، أن يلهيهم، أن يشغلهم. فهو لم يتوجه بفيديو البث المباشر إلى المسلمين كي يرهبهم، توجه إلى “أصدقائه”، إلى متابعيه، كي يسليهم. وبهذا، لا يعود الإرهاب، وبحسب رطانته، “رسالة إلى العالم كي يتعظ”، إنما كي ينتعظ. إنه، وببساطة، الإرهاب في بورنوغرافيته، حيث السفاح يمارس جريمته على طريقة “pov”، التي برزت في البورنو قبل أن تذيعها كاميرا “غو برو”، محققة حلم المتفرجين، حلمهم ان يصيروا بذاتهم كاميرا.

ثمة مقايضة بين الإرهابي والمتابعين، أو بينه وبين الآلة الزرقاء، بوصفها الموقع التواصلي الأول، وهي أنه يعطيها إرهابه لكي تعطيه وجهاً. في الفيديو، يظهر بوجهه، في “سيلفي”، قبل أن ينطلق إلى جريمته، التي، وبقدر ما هي امتدادا لذلك الوجه، تبدو أنها، وفي الوقت نفسه، تنتجه.

يقتل كي يصير له وجه، يقتل لكي تصير له هذه البصمة الكبرى، يقتل لكي لا يعود من دون ملامح، ومن دون هوية، لكي يحصل على هذه الملامح وعلى هذه الهوية. وبهذا، نافل الإشارة، لا إلى انقلاب جذري في الإرهاب، لكن إلى إبانة أنه مجرد سبيل اندماج نظامي: وجّه تارانت خلاصة ذلك الملثم الذي لوّح بسكينه ذات صيف في الصحراء. فالارهابي يتقنع لكي يطالب بوجه، بالتعرف عليه، بذيوعه.

سارع “فايسبوك” إلى إزالة فيديو تارانت. وفي أثناء ذلك، كان أحد المسؤولين فيه يستقيل معترضاً على عدم مراقبة “المحتوى”. بهذا، كانت الآلة الزرقاء تمحو أثر الإرهاب الذي صار يجري ارتكابه من أجلها، ويجري بثه عبرها، والذي صار يتكلم عنها، وعن نظامها، أكثر مما يتكلم عن نفسه، لا سيما أنه تطبيق لهما. إنه إرهاب تافه، أي معناه ليس فيه، ما لا يفيد أن عنفه سينقص أو يضمحل. بل، على العكس تماماً، سيشتد وينتشر. ذلك، أن للعنف فيه دوراً جديداً، وهو أن يثبت للإرهاب انه إرهاب، أنه قائم بذاته، وأن يثبت وجه صاحبه، أن يجعله بارزاً على الدوام. إذ عليه أن يقتل، ويستمر في القتل، حتى يظل موجوداً في خاطر متابعه، الذين، وفي عندما تسليهم المذبحة الحية، فلأنهم، وعلى الاقل، يمضون أيامهم في الجحيم.

المدن

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.