حسن خضر…مفاتيح للتفكير في غسان كنفاني

25 يوليو 2019
حسن خضر…مفاتيح للتفكير في غسان كنفاني

المفتاح الأوّل: الحياة القصيرة، وحجم الإنجاز وتعدديته. فقد عاش 36 عاماً لا غير. وما بين العشرين والسادسة والثلاثين كتب كل ما تبقى لنا منه، أي كانت المدة الزمنية 16 عاماً فقط. وهذه قصيرة إذا ما قيست على مسطرة المُنجز الأدبي والفكري والسياسي الكبير كماً وكيفاً، ومشاغل وهموم حياته اليومية والحزبية.

وعلى امتداد تلك الفترة الزمنية القصيرة كتب القصة القصيرة، والرواية، بما فيها البوليسية، والمسرحية، والمقالة الأدبية والسياسية، وبحث في أدب الأرض المحتلة، وفي الأدب الإسرائيلي، وفي قضايا الحركة الفدائية، واحترف العمل في الصحافة اليومية، وانشأ وحرّر مجلة أسبوعية، إضافة إلى عمل سابق كناشط في حركة قومية، وعمل لاحقاً كناطق في فصيل فدائي مسلّح، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا من مجازفات، وملاحقات، إضافة إلى مُنغّصات لا تخلو منها الحياة الحزبية. ومع هذا كله، كان يعاني من مرض السكري، ويحقن نفسه بالأنسولين لمواصلة ما في الحياة اليومية من أعباء، واقتناص ما في بيروت الزاهية، في ذلك الزمن، من مباهج.

كيف استطاع التوفيق بين هذه الأشياء كلها وسط ذلك الزحام، متى وكيف قرأ وفكّر وكتب، واجتمع وناقش، وسهر، وأحب، وأكل، ونام؟ وما مصدر ذلك الوقود الهائل في الروح والجسد؟ ثمة أكثر من جواب، ولن يخلو كل جواب محتمل من حقيقة أن غسّان كنفاني ظاهرة استثنائية في حقلي الثقافة والسياسة في فلسطين والعالم العربي.

كان ابناً لزمانه ومكانه، وقارئاً موهوباً ووفياً لما في الزمان والمكان من مواعيد ووعود. كان الزمان يتدفّق ساخناً، والمكان يهتز ويرتج. فالصبي الذي أفاق على نفسه لاجئاً في الثانية عشرة من العمر، عاش تجربته التكوينية، على مدار عقد واحد، فقط، بعد النكبة: خلع أسنان الأسد البريطاني في حرب السويس، وصعود عبد الناصر، وبعد السويس بعامين الوحدة المصرية ـ السورية، وثورة تموّز العراقية، وبعد عام اقتحم فيدل كاسترو، وتشي، العاصمة هافانا. ومع هذه وتلك اندلعت الثورة الجزائرية في عام 1954، أبرز ثورات التحرر القومي في العالم الثالث، وفي العام نفسه استسلم قائد القوّات الفرنسية أمام الجنرال جياب في معركة ديان بيان فو التاريخية المجيدة.

وفي الفترة الزمنية نفسها أنشأ جورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد، حركة قومية ستكون ذات شأن في تاريخ فلسطين والعالم العربي، وشاء الزمان والمكان أن يقتفي غسّان كنفاني خطى الحكيم، وفي الأثناء غرس ياسر عرفات، وخليل الوزير، وصلاح خلف، بذوراً أولى لما سيُعرف لاحقاً بحركة فتح قائدة الحركة الوطنية الجديدة، بعد النكبة، وعمودها الفقري.
وفي الفترة الزمنية نفسها حاول الفلسطينيون ترميم حياتهم، بالمعنى الثقافي العام، فالنكبة أصابتهم في عقدها الأوّل بما يشبه الدوار، أو إذا استعرنا عبارات أستاذنا عبد الرحمن ياغي: “حيث تذهل كل مرضع عمّا أرضعت”، “وإذا بالأدباء والمفكرين يفقدون حتى القدرة على تذكّر ما كتبوه”.

كان ثمة الكثير من بكاء “الجنّة الضائعة”، خاصة في التمثيلات الشعرية، وكانت سميرة عزّام تتلمّس أولى خطواتها لتصوير مشهد اللاجئين وحياتهم، وكان جبرا إبراهيم جبرا في بداية مرحلة التأقلم مع بيئته العراقية الجديدة.

لكن صوتاً واحداً كان فريداً ومُتفرّداً في ذلك الوقت، معين بسيسو، الذي شق طريقاً جديدة للشعر الفلسطيني في ديوان بعنوان “في المعركة”. ولم يكن من قبيل الصدفة أنه كان صوتاً يسارياً يُبشِّر بالكفاح. كان اليسار موجة المستقبل الصاعدة.

كل ما تقدّم تجلى في المكان والزمان، وكلاهما كان القابلة السياسية، والثقافية، التي وُلد على يديها غسّان كنفاني. وهذا ثاني المفاتيح، الذي لن يتضح بصورة كافية دون التعريج على مكان ومكانة بيروت، المدينة والمجاز، في سفر التكوين العربي. وهذا ما سنأتي على ذكره لاحقاً.

مدونة نشرها الكاتب الفلسطيني حسن خضر في صفحته الفايسبوكية