أدت انتفاضة 6 شباط في العام 1984، التي قادتها «حركة أمل» ضد الرئيس أمين الجميل وأجهزته العسكرية والأمنية وأجهزة حزبية أخرى إلى تدهور الأوضاع السياسية والأمنية، فاشتعلت خطوط التماس بين شقي العاصمة الشرقي والغربي وعاد القنص إليها والقصف العشوائي إلى الأحياء القريبة منها، وأغلقت المدارس والجامعات أبوابها، وتوقفت الأعمال في جميع الإدارات الرسمية والمؤسّسات العامة والخاصة، وعمّ الذعر واليأس نفوس المواطنين.
استمرت تلك الحالة أسابيع عدة، ولما استقرت الأوضاع نسبياً فتحت المدارس أبوابها بينما بقيت المدارس المتواجدة في مناطق التماس مقفلة نتيجة القنص والاشتباكات المتقطعة، ومنها مدرسة «الليسيه الفرنسية الكبرى»، حيث كان مسجلاً فيها 175 تلميذاً يقيمون في المنطقة الغربية من بيروت، ومن بينهم إبنتيّ الصغيرتين آنذاك. واستدرك الفرنسيون الأمر بنقل «الليسيه» إلى كفر حباب في عمق المنطقة الشرقية، ما أمّن استمرارية التعليم للتلاميذ القاطنين في شرق العاصمة، بينما بقي تلاميذ المنطقة الغربية في بيوتهم، نتيجة رفض إدارتي «ليسيه عبد القادر» و«ليسيه فردان» استقبالهم بذريعة عدم وجود أماكن شاغرة لهم.
وضع أهالي التلاميذ هذا الملف بعهدتي، فلجأت إلى الرئيس سليم الحص، أمدّ الله في عمره، الذي كان يتولى وزارة التربية الوطنية في حكومة الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وبعد عرضي المشكلة عليه أجرى اتصالاً بالسفير الفرنسي طالبه فيه بتأمين أماكن لأولئك التلاميذ في المدارس الفرنسية الموجودة في المنطقة الغربية من بيروت، إسوة بما فعله مع تلاميذ المنطقة الشرقية.
ولما لم يتجاوب السفير الفرنسي مع طلب الرئيس الحص، قصدت سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء الآخرين، حيث كانت تربطني به علاقة وثيقة وكنت عضواً في المجلس الاستشاري لسماحته. عرضت الأمر عليه، فبادر إلى الاتصال بالسفير الفرنسي معترضاً على مواقف فرنسا المنحازة إلى فريق من اللبنانيين وإهمالها للفريق الآخر، وطالبه بتأمين أماكن لتلاميذ المنطقة الغربية في المدارس الفرنسية. وأبلغه بأنني المكلف من قبله بمتابعة هذا الملف مع السفارة.
وبعد لقاءات عدة مع الملحق الثقافي الفرنسي مسيو كلافييه، قبلت السفارة الفرنسية بتحمل مسؤولياتها، فوافقت على قبول التلاميذ في «ليسيه فردان» و«ليسيه عبد القادر» مقابل تأمين ثلاث قاعات جاهزة التصنيع قبل بداية العام الدراسي المقبل. وافقت على الطلب من دون إدراك تبعاته المالية التي عليّ تحمّلها.
وفي خضم العمل على تأمين أماكن للتلاميذ، علمت أن الفرنسيين كانوا قد باعوا «ليسيه عبد القادر» إلى أحد المتمولين اللبنانيين من بلدة بيت الشعار المتنية كي يقيم مكانها مجمعاً تجارياً ضخماً، وأنه سيتسلم العقار شاغراً في صيف العام 1985.
لجأت إلى الرئيس الحص، أبحث معه في الوسيلة التي تنقذني من ورطتي بالموافقة على تأمين الصفوف الجاهزة، وفي مصير مئات التلاميذ الذين سيجدون أنفسهم في الطريق بعد تسليم العقار إلى المالك الجديد.
اتصل الرئيس الحص بالشيخ رفيق الحريري، طيّب الله ثراه، في باريس، عارضاً عليه الوضع بجميع تشعباته وتفاصيله وطالباً منه المساعدة. ومن دون أيّ تردد قرر الشيخ رفيق تأمين الصفوف الجاهزة، وقام بإرسالهم بعد أيام معدودة إلى «ليسيه عبد القادر»، وبذلك تمّ تسجيل تلاميذ الليسيه الكبرى في «ليسيه فردان» و«ليسيه عبد القادر».
أما بخصوص العقار فقد أبلغ الشيخ رفيق بعدها بأيام قليلة الرئيس الحص بأنه استرده من المتمول اللبناني، وأنه اتفق مع الفرنسيين على إبقاء المدرسة بإشرافهم وبإدارتهم. وأبلغنا بأنه لن يسمح بإقفال أيّ مدرسة في المنطقة الغربية، وسيعمد إلى شراء أيّ مدرسة معروضة للبيع. وقد اشترى بعد أشهر قليلة مدرسة «كرمل السان جوزف» في فردان، حيث يوجد اليوم مجمع ABC، من الدولة الفرنسية، وأبقاها سنوات عدة بإدارة الراهبات قبل انتقالها إلى مقرها الجديد في المشرف.
ويستدل من ذلك على مدى اهتمام الشيخ رفيق بالعلم وبالجيل الجديد، وعلى سرعة تحركه واتخاذه القرار، ورفضه إقفال أيّ مدرسة، واستعداده لشراء أيّ مدرسة ينوي أصحابها بيعها كي يحافظ عليها ويُبقيها صرحاً تربوياً. ولم يكن يبغي الشيخ رفيق من تلك المبادرات الطيبة والأعمال المباركة موقعاً أو مركزاً سياسياً له، بل أرادها لوجه الله تعالى ولخدمة أبناء وبنات بلده.
بدأ الكلام قي العام 2014 عن نية السيدة هند الحريري التي ورثت عقار ليسيه عبد القادر من والدها الرئيس الشهيد على بيعه إلى أحد المتمولين كي يقيم عليه مجمعاً سكنياً وتجارياً. وكان لي تحرك لافت يومها، بصفتي رئيساً لاتحاد جمعيات العائلات البيروتية، مع دولة الرئيس سعد الحريري ومع السيدة نازك الحريري، لوقف البيع رأفة بالتلاميذ وحرصاً على المبنى التراثي وعلى الصرح التعليمي كي يبقى إرثاً للرئيس الشهيد في بيروت التي أحبها من كل جوارحه وبادلته هي الحب بتتويجه زعيماً عليها. ونجحت يومها مع غيري في وقف عملية البيع، مع الوعد على إبقاء الليسيه في مكانها.
وعاد اليوم الكلام مرة أخرى على بيع عقار الليسيه عبد القادر، وأنا لا ألوم السيدة هند لأنه من حقها أن تتصرف بملكها وبمالها، ولكن عتبي على ورثة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذين لم يُخرجوا هذا الصرح التربوي الكبير من قسمة الميراث، كي يبقى شاهداً على حب رفيق للعلم ولبيروت وحب بيروت لرفيقها.
الكل يطالب بأن تبقى ليسيه عبد القادر في بيروت .. ولكن كيف؟ فعلى بلدية بيروت أن تشتري المبنى كي تحافظ عليه كونه تراثياً، أو أن تعود فرنسا إلى استملاك العقار والى إدارة المدرسة، وربما الحل الأمثل يكون بمساهمة كل ورثة الرئيس الشهيد بثمن العقار كي يبقى صرحاً يخلد إسم والدهم.
رفيق الحريري وليسيه عبد القادر
