الإرهاب العثماني

6 سبتمبر 2019
الإرهاب العثماني
beirut news

ما الذي دها بعقل رئيس جمهوريتنا ميشال عون ليستأنف قضية مضى عليها قرن من الزمن، في وقت تحاصر القضايا الراهنة لبنان من كل حدب وصوب. الرئيس أعلن، قبل يومين فقط، أن العثمانيين مارسوا إرهابا على اللبنانيين! السلطنة التي أُعلن عن موتها بعد الحرب العالمية الأولى، مارست إرهابا على لبنان الذي لم يكن قد ولد بعد، وكانت إمارة الجبل بالكاد تضم بيروت.

أطلق الرئيس هذه المواقف عشية احتقان الوضع في جنوب لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وعلى شفير انهيار اقتصادي يُهدد كل اللبنانيين بلقمة عيشهم. ومن المؤكد أن الرئيس لم يهدف إلى تحويل اهتمام اللبنانيين عن المصائب الراهنة التي تحاصرهم. إذا علينا أن نبحث عن سبب آخر لفعلة ميشال عون.

العثمانيون مارسوا “إرهابا” على اللبنانيين! وعبارة “إرهاب” تتصل على نحو وثيق بوقائع راهنة. العبارة بدلالاتها السياسية والاجتماعية والطائفية لا تنتمي إلى الزمن العثماني، إنما إلى ما جرى ويجري منذ عقدين أو ثلاثة. أراد الرئيس أن يذكر بأن الإرهاب بصيغه الراهنة يمت بصلة إلى ذلك الزمن، وأن الخلافة العثمانية هي أم الخلافة التي أعلنتها “داعش”. ليس هذا تقويلا وتحريفا لما قاله الرئيس، ذاك أن رجلا في موقعه لن يخرج الكلام منه تلقائيا. العبارة يتم انتقاؤها كجزء من قولٍ ومن خطاب، لا سيما وأنها لم تُسق لخدمة فكرة وطنية. فلو أن الرئيس قالها في سياق انحيازه للمواطنين اللبنانيين الأرمن في ذكرى المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحقهم، لكان تفسير هذا القول قد اختلف. لكن الرئيس قال إنهم مارسوا إرهابا على “اللبنانيين”. اللبنانيون في حينها كانوا أهل جبل لبنان، وهؤلاء ودون غيرهم من رعايا السلطنة العثمانية منحوا حكما ذاتيا قارب الاستقلال، وازدهر اقتصادهم وسمح لهم بالتواصل مع عمقهم “الاجتماعي والديني” في الغرب، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى ووقعت المجاعة التي أصابت كل أطراف السلطنة وليس إمارة الجبل وحسب.

وبعيدا عن كل هذا النقاش وهذه الحقائق، يبقى السؤال عن الوظيفة الراهنة لهذا الخطاب؟ هل يقترح الرئيس علينا معنى جديد للبنان؟ وهل هو ومن يمثل في هذا الموقع أصلا؟ نعم الرئيس اللبناني ميشال عون يقترح علينا معنى جديد للبنان، وأن يكون بلدنا جزءا من منظومة دول تشكل “الأقلوية” جوهر هويتها الوطنية. “الأقلوية” التي انتصرت على الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان، والتي يشعر العونيون أنها خيط خلاصهم بعد ما أصابهم في عقود الانكفاء والإحباط المنقضية. “الأقلوية” التي استعاضت بها “العونية السياسية” عن تنويرية “المارونية السياسية”، والتي ترى في توسيع حصتها بالسلطة بديلا عن الطموح إلى دفع لبنان لكي يكون نموذجا متقدما في هذا الشرق الذي تخنقه أكثريات ما بعد السلطنة.

“العونية السياسية” هي عملية تفريغٍ لموقع المسيحيين في لبنان من أي محتوى كانوا طرحوه علينا نحن اللبنانيين، والتحاقٌ بموقع نزاعي رجعي يطمح لتوظيف العصبيات في لعبة السلطة. وتذكيرنا بإرهاب متوهم مارسه العثمانيون على اللبنانيين هو صورة جلية عن هذا المسار. ومرة أخرى إنه زمن ردة مسيحيي المشرق نحو فالق العصبيات الذي يشطر المنطقة بأسرها. وهذا التفريغ بدأ يأتي أُكله. الكنيسة أصبحت جاهزة للسير بركبه، والعونية بدأت تقضم نفوذ الجميع في بيئة المسيحيين.

الإرهاب العثماني

الرئيس اللبناني مستقبلا وزير الخارجية التركي
الرئيس اللبناني مستقبلا وزير الخارجية التركي

حازم الأمين/

ما الذي دها بعقل رئيس جمهوريتنا ميشال عون ليستأنف قضية مضى عليها قرن من الزمن، في وقت تحاصر القضايا الراهنة لبنان من كل حدب وصوب. الرئيس أعلن، قبل يومين فقط، أن العثمانيين مارسوا إرهابا على اللبنانيين! السلطنة التي أُعلن عن موتها بعد الحرب العالمية الأولى، مارست إرهابا على لبنان الذي لم يكن قد ولد بعد، وكانت إمارة الجبل بالكاد تضم بيروت.

أطلق الرئيس هذه المواقف عشية احتقان الوضع في جنوب لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وعلى شفير انهيار اقتصادي يُهدد كل اللبنانيين بلقمة عيشهم. ومن المؤكد أن الرئيس لم يهدف إلى تحويل اهتمام اللبنانيين عن المصائب الراهنة التي تحاصرهم. إذا علينا أن نبحث عن سبب آخر لفعلة ميشال عون.

لبنان صغير جدا وضعيف جدا ومُتنازع ومنتهك، وقدرته على المساهمة في منظومة “الهلال الأقلوي” منعدمة

العثمانيون مارسوا “إرهابا” على اللبنانيين! وعبارة “إرهاب” تتصل على نحو وثيق بوقائع راهنة. العبارة بدلالاتها السياسية والاجتماعية والطائفية لا تنتمي إلى الزمن العثماني، إنما إلى ما جرى ويجري منذ عقدين أو ثلاثة. أراد الرئيس أن يذكر بأن الإرهاب بصيغه الراهنة يمت بصلة إلى ذلك الزمن، وأن الخلافة العثمانية هي أم الخلافة التي أعلنتها “داعش”. ليس هذا تقويلا وتحريفا لما قاله الرئيس، ذاك أن رجلا في موقعه لن يخرج الكلام منه تلقائيا. العبارة يتم انتقاؤها كجزء من قولٍ ومن خطاب، لا سيما وأنها لم تُسق لخدمة فكرة وطنية. فلو أن الرئيس قالها في سياق انحيازه للمواطنين اللبنانيين الأرمن في ذكرى المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحقهم، لكان تفسير هذا القول قد اختلف. لكن الرئيس قال إنهم مارسوا إرهابا على “اللبنانيين”. اللبنانيون في حينها كانوا أهل جبل لبنان، وهؤلاء ودون غيرهم من رعايا السلطنة العثمانية منحوا حكما ذاتيا قارب الاستقلال، وازدهر اقتصادهم وسمح لهم بالتواصل مع عمقهم “الاجتماعي والديني” في الغرب، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى ووقعت المجاعة التي أصابت كل أطراف السلطنة وليس إمارة الجبل وحسب.

وبعيدا عن كل هذا النقاش وهذه الحقائق، يبقى السؤال عن الوظيفة الراهنة لهذا الخطاب؟ هل يقترح الرئيس علينا معنى جديد للبنان؟ وهل هو ومن يمثل في هذا الموقع أصلا؟ نعم الرئيس اللبناني ميشال عون يقترح علينا معنى جديد للبنان، وأن يكون بلدنا جزءا من منظومة دول تشكل “الأقلوية” جوهر هويتها الوطنية. “الأقلوية” التي انتصرت على الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان، والتي يشعر العونيون أنها خيط خلاصهم بعد ما أصابهم في عقود الانكفاء والإحباط المنقضية. “الأقلوية” التي استعاضت بها “العونية السياسية” عن تنويرية “المارونية السياسية”، والتي ترى في توسيع حصتها بالسلطة بديلا عن الطموح إلى دفع لبنان لكي يكون نموذجا متقدما في هذا الشرق الذي تخنقه أكثريات ما بعد السلطنة.

“العونية السياسية” هي عملية تفريغٍ لموقع المسيحيين في لبنان من أي محتوى كانوا طرحوه علينا نحن اللبنانيين، والتحاقٌ بموقع نزاعي رجعي يطمح لتوظيف العصبيات في لعبة السلطة. وتذكيرنا بإرهاب متوهم مارسه العثمانيون على اللبنانيين هو صورة جلية عن هذا المسار. ومرة أخرى إنه زمن ردة مسيحيي المشرق نحو فالق العصبيات الذي يشطر المنطقة بأسرها. وهذا التفريغ بدأ يأتي أُكله. الكنيسة أصبحت جاهزة للسير بركبه، والعونية بدأت تقضم نفوذ الجميع في بيئة المسيحيين.

جبل لبنان بالنسبة للعونية هو حيز عصبوي مناطقي، لا نموذجا يجب مده على لبنان الكبي

لكن لبنان صغير جدا وضعيف جدا ومُتنازع ومنتهك، وقدرته على المساهمة في منظومة “الهلال الأقلوي” منعدمة. هو متلقٍ عديم التأثير فيها. يُحقق النظام السوري تقدما في إدلب، فيمد العونيون تعريفهم للإرهاب ليشمل العثمانيين، وما أن تقترب العقوبات الدولية لتشمل سياسيين ووزراء قريبين منهم حتى يتنبهون إلى عجزهم ويباشرون بإرسال طلب العون من فرنسا التي لم تعد أما حنونا.

العثمانيون “إرهابيون”، وحين يواجه العونيون بحقائق تاريخية مختلفة، لن يسعفهم خيالهم باستحضار الجينوسايد الأرمني، ذاك أن وعيهم مقتصر على حدود جبل لبنان. الجنرال الرئيس غير معني بمأساة الشيعة اللبنانيين مع السلطنة، ففي حينها لم يكونوا لبنانيين، كما أنه طبعا غير معني بالمأساة الأرمنية على رغم تحالفه الانتخابي مع حزب الطاشناق. وجبل لبنان بالنسبة للعونية هو حيز عصبوي مناطقي، لا نموذجا يجب مده على لبنان الكبير، على ما طمحت إليه “المارونية السياسية” في السابق، ولهذا فإن رمي الكلام على عواهنه في سياق التأسيس لعصبية أهلية “أقلوية” في مواجهة عصبية أهلية “أكثرية” سيكون علامة إعادة المسيحيين إلى ثقافة هذا الشرق وإلى عصبياته.

يجب انتزاع المسيحيين من العونيين فورا، فرهن مستقبل جماعة مهمة للبنان بعملية توريث يجب أن تتم على نحو سريع، عملية تشمل خطورتها كل اللبنانيين، وبشكل خاص “جبل لبنان”.