ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا: الخاتمة اللائقة لا “نبش القبور”

18 سبتمبر 2019
ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا: الخاتمة اللائقة لا “نبش القبور”
beirut news

مذبحة صبرا وشاتيلا، ليست مجرّد بكائية فلسطينية، تُضاف إلى بكائيات الفلسطينيين الكثيرة، رغم أن الوقائع التي نقلها الشهود تبرر ذلك، ومنها ما ذكره روبرت فيسك، الذي كان من أوائل الواصلين إلى المخيم، أن الفؤوس عملت على استخراج الأجنة من بطون بعض النساء. فهذه المذبحة تُعد لحظة مؤسسة بالوعي الفلسطيني على غرار ما كانته مذبحة دير ياسين، وإن اعتُبر ما جرى في القرية القريبة من القدس أقل دموية، ولكن يتساوى رمزية مع ما حدث في صبرا وشاتيلا.

عرفات ورسائل الضمانات
شكّلت المذبحة بعضَ آراء الفلسطينيين لعقود لاحقة، تجاه قضايا تُعتبر إشكالية في العلاقة اللبنانية الفلسطينية، وفي مقدّمتها قضية السلاح الفلسطيني. فعلى رغم أن الفلسطينيين غير راضين، بأغلبيتهم، عن هذا السلاح، لجهة استخدامه، وتوظيفه لمصالح غير فلسطينية غالباً، ودوره في الإخلال بالقيم المجتمعية، والتفسّخ الاجتماعي، وتكريس الانقسامات، إلاّ أن زمن مذبحة صبرا وشاتيلا يحضر، حين الحديث عن تسليمه للسلطات اللبنانية.

يحضر صبرا وشاتيلا بصفته مخيماً جُرّد من السلاح، فسهُل استهدافه، كما يرى معظم الفلسطينيين. والإشكالية المرافقة لقضية السلاح الفلسطيني، أنه لا يمكن الحديث عن ضمانات تُعطى للفلسطينيين في حال تسليم هذا السلاح. فالضمانات قبيل المذبحة كانت أميركية، انتزعت ضمانات إسرائيلية ومحلية لم تمنع قتل المئات من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين. هذه الضمانات التي عدّها عرفات، ومعه الحركة الوطنية وقتها، حماية كافية. فمنذ بداية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت عام 1982، كان المبعوث الأميركي فيليب حبيب يسأل عن انسحاب منظمة التحرير وعرفات يسأل عن الضمانات.

ففي برقية بعثها عرفات للأميركيين، عبر الفرنسيين، مؤرخة في 30 حزيران 1982 جاء فيها “السؤال المهم المطروح هو عن الضمانات ضد ارتكاب مجزرة بحق الفلسطينيين، المدنيين والعسكريين (السابقين) على السواء، في ضوء ما حدث في صور وصيدا، وبعد ما فعلته الكتائب أمس بالوطنيين اللبنانيين في الجبال”.

الاعتراف الأميركي
هذه الضمانات ستحتل الجزء الأكبر من الحوار مع الأميركيين إلى أن جاء رد حبيب في 3 آب بالتأكيد على تقديم ضمانات شاملة، وتحمل المسؤولية كاملة عن سلامة المغادرين، وكذلك سلامة الفلسطينيين الذين يقررون البقاء. وتطلّب ذلك تبادلاً للرسائل بين الحكومتين اللبنانية والأميركية. وينقل رشيد الخالدي في كتابه “تحت الحصار” بعض نصوص هذ الرسائل فيما يخص الضمانات الأميركية “الفلسطينيون غير المقاتلين الذين يمكثون في بيروت، وهم ممن يتقيدون بالقوانين، بما في ذلك عائلات المغادرين، سيكون في وسعهم العيش بسلام وأمان. ستقدّم الحكومتان اللبنانية والأميركية ضمانات أمنية ملائمة”.

وقد اعترف حبيب بهذه الضمانات التي تحدّث عنها عرفات بعد المذبحة، فنقل الصحافي روبرت فيسك في كتابه (ويلات وطن) عن حبيب قوله “إن ما قاله عرفات هو الحقيقة بعينها. فقد وقّعت الوثيقة التي تتضمّن عدم إنزال الضرر بالفلسطينيين في بيروت الغربية. وحصلت على ضمانات محددة من بشير ومن الإسرائيليين- أي من شارون”. وكل تلك الضمانات الدولية والمحلية بقيت من دون معنى حين جرى تجريد الفلسطينيين من سلاحهم، فكانت المذبحة، ثم الإفلات من العقاب، وحتى الاتهام (تقرير القاضي أسعد جرمانوس اتهم الاحتلال الإسرائيلي فقط بارتكاب المذبحة).

أرض نفايات واستغلال سياسي!
القوى الفلسطينية المسلّحة ستعمد إلى استغلال هذا الحدث لإدامة قناعة الفلسطينيين بأهمية سلاحها، ودوره في حماية مخيماتهم وتجمعاتهم، مع أن هذا السلاح أثار الشكوك بقدرته حين وقف عاجزاً عن التصدي لاقتحام جماعة فتح الإسلام مخيم نهر البارد. وسيذهب بعض هذه الفصائل باتجاه استثمار سياسي بعيد لتحقيق أهداف سياسية فصائلية، أو إقليمية، وذلك من خلال محاولة منع التعاطي المباشر مع القوات اللبنانية بصفتها المتهمة الأولى بارتكاب المذبحة، متجاهلاً تغييرات كبيرة حدثت على مستوى الصف الأول في هذا التنظيم اللبناني منذ تاريخ ارتكاب المذبحة.

في الوقت عينه تعمد هذه القوى في سردها لكثير من الانتهاكات والمذابح ضد الفلسطينيين إلى تجهيل الفاعل لأسباب سياسية أيضاً، بل وتركت أرض المقبرة، التي تضم رفات المئات من قتلى المذبحة دون تنظيف. بل إن الراحل شفيق الحوت قال يوماً للفصائل العشرة “هناك مجمع للنفايات في مخيم شاتيلا يرقد تحته مئات من شهداء المجزرة، أعطيكم مهلة سنة لتنظيف تلك البقعة وتحويلها إلى مزار لائق، فإن فعلتم اعتبروني جندياً في صفوفكم”. ولم يفعلوا.

الاستغلال السياسي سيطال الإسرائيليين، الذين بدلاً من أن ينعكس ما حصل شعوراً بالعار لديهم، حوّلوه إلى سؤال وقضية “لماذا يكره العرب العرب؟”، في تلطيف لعبارة مناحيم بيغن رداً على المذبحة “إنهم عرب يقتلون عرباً”. صحيح أن رفائيل باتاي تناول مبكراً السؤال في كتابه “العقل العربي”، لكن بعد المذبحة حاول جملة من الكتاب اليمينيين في (إسرائيل) الإجابة من منطلقات إيديولوجية استناداً إلى ما جرى في صبرا وشاتيلا. حتى إنه مع انطلاقة الانتفاضة الأولى في جباليا (عام 1987) جمع الحاكم العسكري الكثير من الفلسطينيين وقال لهم “تريدون حكماً عربياً؟ ألم تسمعوا بمذبحة حماه، ومذبحة صبرا وشاتيلا؟”، رغم أن شهوداً كثراً رووا ما يثبت تورط الاحتلال بالمذبحة، على الأقل من ناحية التسهيلات العملانية.

إنصاف الضحايا
لا يمكن تخبئة الماضي، لكن بات من الضروري معالجة آثاره. مع أن الخطاب الشوفيني والشعبوي، المنتشر مؤخراً في لبنان، لا يُساعد على الوصول إلى خاتمة تُنصف ذاكرة الضحايا وأهاليهم في صبرا وشاتيلا، بل يبشّر بالمزيد من المآسي والمقابر الممتدة، ومعها مخاوف فلسطينية تتعاظم بفعل هذا الخطاب الذي صنع يوماً مجزرة، تركت بصمتها في الوعي الجمعي للفلسطينيين في لبنان.