مسخرة “فائض القوة”

30 أكتوبر 2019
شابات وشباب بيروت تغلبوا على "فائض القوة" وأيديولوجيا القوة
شابات وشباب بيروت تغلبوا على "فائض القوة" وأيديولوجيا القوة
beirut News

يوسف بزي كاتب وصحافي لبناني

إسقاط الحكومة لم يكن الإنجاز الأول لانتفاضة 17 تشرين. سبقه بساعات إنجاز سياسي بعيد الأثر: “إسقاط” إصبع الترهيب أيضاً، تعرية نظام 7 أيار 2008 الحاكم حتى يومنا هذا بعهوده ورموزه واقترافاته.
الانتفاضة، وأولاً بشاباتها مسخرن “فائض القوة” وأيديولوجيا القوة وخطاب القوة. ضعفهن الإنساني أمام همجية “أشرف الناس” كان انتصاراً مغايراً لكل ما يدعونه “انتصارات”. تغلبهن على الهراوات وعلى الوحشية وعلى السفالة جاء من رقتهن ومحبتهن وشفافيتهن، ومن عنادهن ووضوحهن وجنونهن الشِعري وعقلانيتهن الحالمة وطموحهن الناصع. كن لهذا السبب هدف الشبيحة، الذين شعروا بالإخصاء أمام تألقهن على مدى 13 يوماً. بل وشعروا بالعجز أمام “خطر” طليعيتهن، التي منحت ساحات الانتفاضة بعداً أعمق من السياسة، كبشارة إلى ثورة اجتماعية وحقوقية كبيرة تليق بهذا الجيل اللبناني.

الشابات والشبان الذين باغتتهم قطعان الشبيحة، “الباسيج” اللبناني، حولوا جراحهم ورضوضهم وخوفهم ودمعهم ودماءهم.. إلى كبرياء مدني نادر. وحوّلوا عودتهم إلى الساحات من فور تواري فلول الشبيحة إلى رصيد سياسي للمستقبل. نصاعة المشهد ونصاعة الإصرار ونصاعة التحدي ونصاعة تغلبهم على خوفهم النبيل، هو الفارق الجوهري بين رؤيتين لمستقبل لبنان ولمعنى الحياة فيه بكرامة وحرية وسلام. لكن الأهم، ومرة أخرى منذ ذاك “اليوم المجيد” في أيار 2008، كان مشهد الشبيحة بمواجهة شباب وشابات لبنان يعيدنا إلى تعريف الأخلاق في السياسة كفارق دائم بين الفاشية والديموقراطية، بين “عبادة القوة” و”توقير الضعف”.

على أي حال، في هذا المشهد تحررت كلمة “المظلومية” من الذي كان يصادرها بابتذال ورياء.

مشهد “القمصان السود” بكل خساستهم ودناءتهم يعيدنا إلى أصل الصراع السياسي في لبنان، الذي هو ببساطة رفض أكثرية اللبنانيين أن يكون بلدهم وضيعاً على شاكلة هؤلاء، أن يكون بشعاً كهيئاتهم، أن يكون جاهلاً كرؤوسهم، ضحلاً ووحليّاً كنفوسهم. فلا شيء أكثر إهانة للبنانيين من أن يقرر هؤلاء سياسة لبنان وأن يحكم هؤلاء حياة اللبنانيين.

انتفاضة 17 تشرين هي الفعل العادل ضد الزمن المهدور طوال عقد، زمن تم فيه اختطاف كل آمال اللبنانيين وجهدهم وتعبهم وخياراتهم وهويتهم. وهي تعويض عادل لما أهدره جيلنا في التسعينات والعشرية الأولى بـ”تسويات” فاسدة، حين أقنعنا أنفسنا أنه يمكن التعايش مع سلطة حزب السلاح ومافيا الاقتصاد.

أمس تحديداً، رأينا أملاً للبنان في ذاك الألم الذي أصاب شابات وشبان بيروت. أما ذاك اللغو عن استقالة رئيس حكومة وما قبلها وما بعدها، فمجرد ضجيج ينتمي إلى عهد آفل.