ثورة الطلاب انقلاب في الوعي والسياسة: جيل المفاجآت

8 نوفمبر 2019
يريدون وطناً يتمتعون فيه بكامل الحقوق والواجبات والفرص
يريدون وطناً يتمتعون فيه بكامل الحقوق والواجبات والفرص
beirut News

لأسباب عديدة، لا مجال لنبشها أو محاكمتها الآن، غرق الشعب اللبناني لسنوات في غيبوبة شلّت قدرته على التغيير، وأفقدته القدرة على إدراك مخاطر السياسات المخيفة التي اعتمدتها الطبقة السياسية وما سيترتب عليها. عاش على ما يشبه أجهزة التنفس الاصطناعي التي جسّدتها وعود السياسيين ومكرهم وألاعيبهم، قبل أن يستفيق على وقع شبح الانهيار الشامل.

ثم حدثت المعجزة، في انتفاضة 17 تشرين الاول. الوعي الجماعي تحوّل بعد الغيبوبة الطويلة إلى ظاهرة مُعدية، فمن صرخات الفقراء والمتعبين تحت شعار “كلن يعني كلن” إلى انتفاضة العمال وشعار “يسقط يسقط رأس المال هيدا البلد للعمال”، ومن إبداعات سيدات لبنان اللواتي أردن إسماع السلطة صوت الشعب ولو بقرع الطناجر، إلى مشهد تلامذة المدارس والثانويات وطلاب الجامعات وهتافهم “بدنا العلم وبدنا المال وبدنا نعيش بلبنان”، هتاف يطمئن بأن هذا الجيل مصمم على كسر الصورة النمطية وعلى التأسيس للتغيير والنهوض والبناء.

مكائد وتهديد
لم تكن الثورة المضادة بعيدة عن تحرك الطلاب فحاولوا تشويهها، ككل تحرك في البداية. لجأت مدارس من خلال مسؤوليها وإدارييها إلى تهديد طلابها بالطرد التعسفي، في حال شاركوا بأي مسيرة، كما حصل في ثانوية الراهبات في عبرا، أو عبر مواجهة مباشرة للتحرك من خلال إنزال تظاهرة حزبية مضادة في مواجهة التظاهرة الطلابية، كما حصل أمام الجامعة اللبنانية الدولية في بيروت، أو التعامل مع الطلاب بعنف من قبل الجيش كما حصل في كامد اللوز في البقاع الغربي، أو حتى ببث شائعات للتشويه حول “قبض” الطلاب مبلغ 15 آلاف ليرة للتظاهر.. وغيرها من أساليب الترهيب، علماً أن كل ذلك حصل بعد بيان لوزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيّب، أعطى فيه الحرية لمديري المؤسسات التربوية باستئناف التدريس أو الاستمرار في الإقفال “من دون أي إكراه او إرغام”، ما فتح الباب واسعاً لمواجهة شرسة بين المؤسسات التربوية والطلاب، وصلت أحياناً إلى حدّ القمع. كل هذه المحاولات لم تجدِ نفعاً عند الطلاب المتوثبين للثورة، لا شيء يثنيهم وهم الذين خرجوا من نوافذ الصفوف رافعين العلم اللبناني تعبيراً عن تضامنهم مع كل المنتفضين ضد سلطة القهر. إنه جيل جديد، عنيد، ومدرك، ومثقف وفضولي، يعرف حقوقه جيداً والأهم أنه يعرف كيف يمارس حريته ويأخذ حقه ولو من فم الحوت، والحوت هنا سلطة فاسدة لا تشبع من الفساد والنهب والمحاصصة.

من صيدا إلى طرابلس، ومن الجبل إلى البقاع، مروراً بالشويفات والضاحية وعكار ومرجعيون وحاصبيا والبقاع الغربي، وطبعاً في بيروت كانت صرخة طلاب لبنان. بداية جمع الطلاب والأهالي والأساتذة بعضهم البعض لتكون وجهتهم أمام وزارة التربية في الأونيسكو، كما أمام الجامعات والمدارس والسرايا الحكومية ومباني شركتي “تاتش” و”ألفا”، كل في منطقته وليس فقط أمام جامعاتهم. هتف الطلاب بصوت واحد “لازم تعرف يا وزير نحنا الناس المسؤولين وإنت شيخ السراقين”.. و”بدنا العلم وبدنا المال وبدنا نعيش بلبنان.. يلا ثوروا يا طلاب”. المطلب الأساسي هو إصدار قرار إقفال الجامعات والمدارس والمعاهد، لأن الشارع هو المدرسة الأهم، معلنين الإضراب المفتوح في حال عدم الإستجابة.

شهادات وشكاوى
يريد هؤلاء أيضاً، مستقبلاً أفضل من دون الحاجة إلى الهجرة، يريدون وظيفة من دون الإضطرار إلى واسطة زعيم أو دفع رشاوى، يقول أحد الطلاب: “إذا أردت الدخول إلى الكلية الحربية، يجب أن أدفع 150 ألف دولار كي يقبلوني”. آخر يؤكد أنه حاول مراراً البحث عن وظيفة، لكن شركات التوظيف تطلب دائماً خبرة لا تقل عن سنتين كشرط أساسي لقبول طلب الوظيفة، مع راتب شهري 400$.. من أمام الوزارة، يطالب الطلاب بما يتجاوز الحدّ الأدنى للأجور وفرص العمل.. هم يريدون وطناً يتمتعون فيه بكامل الحقوق والواجبات والفرص.

طلاب الجامعة الأنطونية يؤكدون أن الجامعة تمنعهم من الانخراط بالانتفاضة، فمنذ أمس وهم يخططون للقيام بتظاهرة أمام الجامعة للتضامن مع كل الشعب والمناطق والجامعات، وما إن وصلوا حتى تفاجئوا بالإجراءات الأمنية والسواتر والعوائق وعناصر شرطة البلدية: “الجامعة تحولت إلى ثكنة عسكرية”، لا بل إن الجامعة فتحت أبوابها بشكل طبيعي! وهذا ما لن يقبلوا به.

الأساتذة المتعاقدون، أكدوا أن مطلبهم الوحيد هو التثبيت، البعض ما زال متعاقداً منذ 17 عاماً، من دون بدل نقل أو ضمان إجتماعي، عدا عن مشكلة التوظيف العشوائي. أما الأساتذة المثبتون، فيؤكدون أن وجودهم هو لمساندة الطلاب والأساتذة المتعاقدين: “لا نريد تعليم طلابنا لأن لا مستقبل لهم، علينا أن نؤمن لهم المستقبل ثم نقوم بالتعليم”.

أما الأهالي، فأجمعوا أنهم نزلوا إلى الساحة أمام وزارة التربية والتعليم لمطلبين اثنين: إيجاد مستقبل أفضل أولادهم. إذ أنهم يتخرجون من الجامعات من دون إيجاد فرص عمل. والمطلب الثاني، ليعبروا عن معاناتهم في دفع الأقساط: “رب العمل أصبح مضطراً للتفتيش عن عمل آخر ليستطيع دفع قسط مدارس أولاده، وهذا طبعاً لأن المدارس الرسمية بحاجة إلى الكثير من التحسينات والتطوير”.

تقول إحدى الامهات إن أقساط المدارس الخاصة تتراوح ما بين من 7 آلاف دولار إلى 12 آلاف دولار: “الأقساط قصفت أعمارنا”.

المطالبات لم تقتصر على القطاع التربوي والعام الدراسي ومستقبل الأجيال الوظيفي، بل للطلاب والأهالي والأساتذة شعارات سياسية، وأهم مطلب كان بتشكيل حكومة في أقرب وقت، قبل أن يهتفوا بشعارات: “باعوا البلد بالدولار”، و “يا سنيورة ويا منشار وينن للـ11 مليار” و”128 .. كلن قرطة نصابين”.. و”الشعب يريد إسقاط النظام” و”مدنية مدنية بدنا دولة مدنية”.

التربية: أهلاً وسهلاً بالطلاب ولكن!
من جهته، يقول مستشار وزير التربية والتعليم العالي، صلاح تقي الدين، إن “الطلاب مرحب بهم دائماً، ونحن مع مطالبهم التي هي حقوق، إنما أنصح الطلاب بأن يستفيدوا من دعوة الوزير بالتظاهر بعد الدوام المدرسي، كي لا يضيع العام الدراسي”، حسب ما قال الوزير في تصريح.

أما عن كيفية التفاوض مع الطلاب، فأكد أن “لا تفاوض معهم، فهم لم يطلبوا موعداً، ونحن ضد شعار كلن يعني كلن وشهيّب واحد منن”. وعن موظفي الوزارة، قال أنه “كان من الصعب دخول الموظفين اليوم إلى مبنى الوزارة، إذ أن التظاهرات تبدأ منذ الثامنة صباحاً، ولكن غداً سنقوم ببعض الإجراءات. فلا يمكن شلّ عمل الوزارة”.

لطلاب لبنان رأي آخر
التهديدات والوعيد والتخويف والتشكيك كان له صدى إيجابياً وتحفيزياً على الطلاب، فهم ليسوا غُشماً ليتركوا فرصتهم الوحيدة في التغيير، هي ثورتهم أكثر من أي أحد آخر، هي ثورة لمستقبل أفضل، هم لا يريدون أن يكون مصيرهم البحث عن وطن آخر، في أرض أخرى، كما يفعل المغتربون، لكن هذه المرة في لبنان. لا يريدون أن يشعروا بالحنين كلما سمعوا إلى فيروز في أبعد بقاع الأرض، أو أن يجهشوا بالبكاء على باب المطار تاركين أهلهم وماضيهم وطفولتهم، لينعوا شبابهم باكراً في الاغتراب، هم يريدون فرص عمل كي لا يضطروا إلى الهجرة.

الحدث الأبرز والأكثر دقة في توصيف “ثورة الطلاب” كان مشهد قيام الطلاب أمام الجامعة اللبنانية في الحدث، برفع نعش أسود كتب عليه “هنا ترقد أحلام الشباب اللبناني”، متحررين من اللباس الحزبي المصبوغ في الجامعة.

البلد على كف عفريت والسلطة تمارس خطة المماطلة، بوقاحة وغباء، غير آبهة بخراب البلد، ولا بدمار القطاعات، وضياع العام الدراسي على الطلاب. وإن كان الوعي الجماعي ظاهرة معدية، فمتى نشهد على “الضمير الجماعي”، فيعي الفاسدون أن الحق هو الذي يكسب في نهاية المطاف؟