قانون العفو: أمل وحزب الله يقوّضان العدالة

19 نوفمبر 2019
قانون العفو يشطب 45 ألف مذكرة ووثيقة بحث وتحر ويطلق يد زعماء المخدرات
قانون العفو يشطب 45 ألف مذكرة ووثيقة بحث وتحر ويطلق يد زعماء المخدرات
beirut News

لوسي بارسخيان

بغض النظر عن مصير جلسة مجلس النواب يوم الثلاثاء 19 تشرين الثاني، المؤجلة منذ 12 تشرين الثاني الجاري، يبقى جدول الأعمال المدرج فيه اقتراح قانون العفو العام، هو الذي يثير السجال، بين من اعتبره واحداً من أبرز مقررات “الورقة الإصلاحية” التي وافق عليها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة التي عقدها ببعبدا، قبل استقالة الرئيس سعد الحريري في تشرين الأول الماضي، ومن يرفض إقراره بالشكل الذي صاغته كتلتي “الإنماء والتحرير” و”الوفاء للمقاومة”. ويعتبره إقتراحاً “يبرئ أصحاب النفوذ الفاسدين”.

مأزق “الثنائي الشيعي”
وفيما يتوقع أن تمارس “الثورة” كل ضغوطها على مجلس النواب يوم الثلاثاء لمنع انعقاد الجلسة مجدداً، استبق أهالي بعلبك وعشائرها الموعد، بتظاهرتين في الضاحية وبعلبك يوم الأحد الماضي، مطالبين بإقرار هذا القانون، وعدم إعاقته.

يحقق القانون إذا ما جرى إقراره، واحداً من أبرز الوعود التي أُغدقت على “طفار” بعلبك وعائلاتهم في الدورة الانتخابية الأخيرة، بعدما استشعر “الثنائي الشيعي”، ولا سيما حزب الله، ميولاً تهدده بخسارته مقاعده النيابية في هذه المنطقة.

لم يعد اللوم خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، التي جرت سنة 2018، موجهاً إلى الدولة وإداراتها بالتقصير “إنمائياً” تجاه بعلبك، بل صار ملف “الطفار” ذريعة للانقلاب على المعادلة السياسية في هذه المنطقة، وللحديث عن معيارين في تعاطي “الثنائي الشيعي” مع بيئة قسمت بين شيعة بعلبك وشيعة الجنوب. وهو ما شكل تهديداً مباشراً لنتائج انتخابات الدورات السابقة التي أمنت مبايعة مطلقة وغير قابلة للنقاش لمرشيحهما.. ومن هنا، بدأ بذل الجهود الاستئنائية، لوضع مشروع قانون يعفي عدداً كبيراً من شباب بعلبك من ملاحقتهم قضائياً بموجب مذكرات غيابية ووثائق، يصل عددها وفقاً لمصدر قضائي إلى 45 ألف وثيقة بحث وتحر، فيما تتحدث مصادر لجنة العفو عن 33 ألف مذكرة، لأشخاص يتوارون خارج قضبان السجون، إلى جانب نحو ألف شخص آخرين بين موقوف ومحكوم.

استرضاء وابتزاز
لكن إذا كان معلوماً أن مناقشة هذا الملف في البيئة الشيعية طرح قبل الإنتخابات، ليأخذ منحى جدياً في شباط 2016، عندما أسس المجلس الشيعي الأعلى لجنة العفو العام للمطالبة بإنماء بعلبك والعفو عن مطلوبيها، كبندين أساسيين يترجمان روحية القسم الذي ألقاه الإمام موسى الصدر من بعلبك منذ سنة 1975، فإن لإندلاع ثورة اللبنانيين، فضل كبير في إعادة أثارته.

منذ 17 تشرين الأول الماضي بدأت تتحضر في أوساط البيئة الشيعية “حراكات شعبية” تنطلق من تقصير السلطة السياسية في “إقرار قانون العفو”، وهو ما شكل دافعاً – وفقاً للمصادر- لإنعاش الاقتراح المعجل المكرر، الذي تقدمت به كتلتي”الإنماء والتحرير” و”الوفاء للمقاومة”، فنجحا بوضعه على جدول جلسة مجلس النواب المقبلة.

إلا أن طرح هذا الملف كموضوع سياسي وليس حقوقياً، يوقع المجلس النيابي تحت ابتزاز الشارع المعاكس لإنتفاضة الشعب اللبناني، بعد أن وجد هؤلاء في “قوة الشارع” فرصة سانحة لاستخدام هذه الورقة، تحت طائلة الخروج عن طوع مرجعياته السياسية أولاً، إذا لم يصر إلى إقرار القانون.

العفو لخامس مرة
يُعنى بالقانون، وفقاً لمرجع قضائي، القسم الأكبر من المطلوبين بجرائم وجنح مدنية مختلفة، وأبرزها الإتجار بالمخدرات، وترويجها. وفي حال خرج هذا القانون “منتصراً” من جلسة مجلس النواب، سيكون الخامس الذي يعفي “الطفار” والخارجين على القانون في منطقة بعلبك الهرمل من ارتكاباتهم، بعدما استفاد هؤلاء من عدة قوانين عفو عام سابقاً، وأبرزها ما صدر سنة 1958 وشمل الجرائم المرتكبة حتى 15/10/1958. وسنة 1969 وشمل الجرائم المرتكبة قبل 1/1/1968، وسنة 1991 واعفى إلى المتورطين بالأحداث، مرتكبي الجرائم على امتداد الحرب الأهلية منذ نيسان 1975 وحتى آذار 1991، وسنة 1997 وشمل جرائم المخدرات المرتكبة قبل تاريخ 31 كانون الاول 1995.

وفقاً لمصدر قضائي، فإن قوانين العفو العام لا تصدر مبدئياً إلا بعد حروب أهلية، يطلب على إثرها طي صفحات دموية، إلا في لبنان. فقد استفاد الخارجون على القانون منذ استقلال لبنان حتى اليوم، من مجموعة إعفاءات، لم يحدث أي منها تغييراً في ذهنية مجتمعات، تعتبر الخروج على القانون تمرداً على الدولة وأجهزتها. وهذا، وفقاً للمصادر القانونية، يشكل تلاعباً بفلسفة العفو العام وأسبابه الموجبة، ويشجع الارتكابات، طالما أننا ننتظر الإعفاءات لاحقاً.

بين المخدرات والإرهاب
إلا أنه وفقاً لمفتي بعلبك أيمن الرفاعي، المشارك في اللقاء الأخير للجنة العفو في بعلبك، فإن العفو العام ليس بدعة في العالم العربي. وقد شهدنا مؤخراً إصداراً لمثل هذا الإعفاء مثلا في الأردن، حيث لا قلاقل ولا ضغوط شعبية.

بالنسبة للرفاعي، هناك عدة موجبات تفرض إصدار هذا القانون، والذي لا يجب أن يقتصر على مروجي المخدرات كما يقول. وأبرزها ما يتعلق بالموقوفين والملاحقين في أحداث الجرود التي وقعت في منطقة بعلبك. وفقاً للرفاعي، فإن قسماً كبيراً من موقوفي بلدة عرسال أو حتى الملاحقين “قُدموا كفواتير لدول أجنبية تحت شعار محاربة التنظيمات الإرهابية وفكرة داعش”. وبالتالي، فإن بعض الأشخاص صاروا ملاحقين من قبل المحكمة العسكرية، لمجرد تواصلهم مع أشخاص تورطوا في بعض الأحداث، كما جرى في عرسال إثر مقتل أحد الضباط. وهؤلاء في معظم الأحيان يمضون سنوات عمرهم في السجن، ليتبين عند إصدار الأحكام أنهم “أبرياء”.

أما فيما يتعلق بموضوع زراعة الحشيشة والإتجار بالمخدرات، فيقول الرفاعي أن الحشيشة موجودة تاريخياً في محافظة بعلبك. متسائلاً في المقابل عن “من يدخل الكوكايين والهيرويين المستورد إلى البلد، ولماذا التركيز على صغار التجار وإغفال كبارهم”.

بالنسبة للرفاعي فإن قانون العفو العام محاولة لإستخراج “الخير” من المخطئين، خصوصاً أن البعض ملاحق بجنح إطلاق نار في عرس، أو قضايا ثأر وغيرها. كلها أمور تتراكم لتجعل مجموع المذكرات القضائية المقطوعة تصل إلى حدود تهدد الاستقرار الإجتماعي في هذه المنطقة. ومن هنا يقول يجب تصفير عداد الملاحقات القضائية، على أن يحاسب كل من يرتكب جرماً بعد تاريخ إصدار القانون بمفعول رجعي. داعياً الحراك المدني لأن يكون عنصراً مساهما في ذلك، بدلاً من أن يقف عائقاً بوجهه.

ضرب العدالة
في المقابل، تعتبر الأوساط القضائية في إقرار هذا القانون ضرباً لجهودها في إرساء العدالة. لأن أي قانون عفو برأيها يساوي بين الصالح بالطالح، وبين كبار المرتكبين وصغارهم، وبين المروج والمتعاطي والتاجر الكبير، من دون أن يؤدي إلى النتائج المرجوة في إصلاح المجتمع. كما أنه، وفقاً للأوساط القضائية، يؤمن بظل حالة الفوضى وعدم الاستقرار الأمني السائد في لبنان عموماً، حرية تحرك أكبر للطفار ويسهل أمورهم، وخصوصاً كبار تجار المخدرات منهم، الذين لم يكونوا في الأساس يقيمون حساباً لملاحقاتهم القضائية، من دون أن يبدل من بعض الذهنيات التي تبرر الخروج على القوانين وتعفي المرتكبين من المسؤوليات الأخلاقية، لمجرد الإشارة إلى بعض كبار المروجين مثلا كمحسنين في مجتمعاتهم.

ومن هنا تعتبر الأوساط القضائية أن رفض الأغلبية الساحقة من اللبنانيين لقانون العفو العام مبرر جداً.. فالمرتكبون في المجتمع أقلية. شارحاً أن الحديث عن 45 ألف مذكرة ووثيقة بحث وتحر لا يعني أن هناك 45 ألف شخص يطالهم العفو، لأن بعض الوثائق تصدر بحق الأشخاص ذاتهم، ومعظمها بحق أشخاص تتكرر أسماؤهم في معظم التحقيقات، وخصوصاً ما يتعلق منها بالإتجار بالمخدرات، كنوح زعيتر الذي تشير بعض المصادر إلى أن إسمه يتكرر أحيانا أكثر من مرتين يومياً في أروقة قصور العدل.

أبغض الحلال
ومن هنا، ترى المصادر القضائية أن أي قانون عفو عام أو خاص، يجب أن يأخذ في الإعتبار تطبيق مبدأ المساواة. وإذا أخذنا في الإعتبار القانون الحالي فإنه غير قادر على تحقيق هذه المساواة، بل هو يعفي جرائم هنا ولا ينطبق على جرائم هناك. وإذا ما أخذنا بالإعتبار تركيبة المجتمع اللبناني سنجد أن المسيحيين يريدون العفو عن المتعاملين مع إسرائيل، والسنّة يريدون العفو عن المتورطين بملف الإسلاميين المعتدين على الجيش، والشيعة يريدون العفو عن المتورطين بملف المخدرات، يمكن القول بأن أي قانون عفو لا يمكن أن يمر ما لم يتضمن العفو عن كل هؤلاء.

ومن هنا، تؤكد المصادر القضائية بأن نظرة القضاء إلى العفو العام هي نظرة بغيضة، وتعتبره أبغض الحلال، لأنه يضيع جهود أشهر وسنوات نظر فيها بالقضايا ودرست الملفات وجرت الملاحقات، ويختصر الحكم بشحطة قلم من دون تحقيق العدالة، التي تعتبرها الأوساط القضائية في المقابل أنها وحدها تنقي المجتمعات وتضع الروادع للارتكابات.