ثورة 17 تشرين: مراجعة في تاريخ الطائفية السياسية وإفلاسها

25 نوفمبر 2019
النظام الطائفي - الرأسمالي فقد القدرة على تجديد نفسه
beirut News

بول طبر باحث لبناني، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الأميركية LAU

لا بد لكل نظام مجْحف يقوم على قهر الإنسان وقمعه واستغلاله، من الاستناد إلى العنف الرمزي أكثر مما على العنف الجسدي، الذي غالباً ما تحتكر الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية حق ممارسته. والعنف الرمزي يقوم على امتلاك القدرة على تأويل الوقائع والأحداث على غير حقيقتها. والأهم ترميز علاقات السيطرة والاستغلال على عكس ما هي عليه.

شرعية النظام اللبناني
تاريخياً، بنى النظام السياسي في لبنان شرعيته، أقله منذ العام 1943، على امتلاك أهل السلطة ومؤسساتها التعليمية والثقافية والإعلامية لرأسمال رمزي تشكِّل الاعتبارات الطائفية -الليبرالية أهم خصائص هويته. وقد استطاعت السلطة السياسية اللبنانية ورموزها من شرْعنة وجودها وسياساتها في نظر محازبيها ومؤيديها وقناعاتهم. والنظام الطائفي – الرأسمالي، بممارسته العنف الرمزي، ظل يتوالد ويتناسل ويتعدَّل حتى انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019. فأدخلت هذه الانتفاضةُ النظامَ في نظر قواعد شعبية واسعة من اللبنانيين، في أزمة فعلية طرحت، من جملة ما طرحته، إسقاط شرعيته الرمزية.

والسؤال الذي لابد من طرحه في ضوء الانتفاضة الراهنة، هو: ما هي العوامل الفاعلة في بنية النظام الطائفي – الرأسمالي والقادرة على إعادة إنتاجه، ولو مع بعض التعديلات في آلية عمله من جهة، أو في بداية سقوط شرْعيته في 17 تشرين، من جهة ثانية؟

نبدأ من عام 1943، عام استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي. دخل لبنان هذه المرحلة محكوماً بنظام يُعرِّفه الدستور وميثاق 1943 على أنه ديموقراطي، يمنح للأحزاب والزعماء الحق في تمثيل طوائفهم، وحيازتهم حصصاً وصلاحيات متفاوتة، تستند إلى جملة من الآراء التي شكَّلت، ولا تزال، أفكاراً أساسية في تعريف الرأسمال الرمزي الذي كان سائداً في لبنان.  ومن هذه الآراء والأفكار:

– يتألف المجتمع اللبناني من طوائف روحية يحق لها التمثيل السياسي المتفاوت أصلاً، وإدارة الأحوال الشخصية لأبناء الطوائف وضبطها، وإدارة مدارسها الخاصة والمستقلة عن إدارة الدولة.

– لا يعود التفاوت في حصص “ممثلي” الطوائف وصلاحياتهم إلى التفاوت المتخيل في حجم الطوائف العددي أو الديموغرافي العددي وحسب، بل أيضاً إلى حاجة الموارنة والمسيحيين عموماً إلى ضمانات سياسية وقانونية تضمن حفاظهم على هويتهم المميَّزة في لبنان وفي الجوار العربي المأهول بأكثرية مسلمة.

– لبنان صلة وصل بين العالم العربي الإسلامي والغرب، وذو وجه عربي.

– لبنان اقتصاده حرّ، تغلب عليه الخدمات والتجارة والسياحة، ويقوم على احترام الملكية الخاصة والمبادرة الفردية.

شكلت هذه الآراء والأفكار وأمثالها النواة الفعلية للرأسمال الرمزي، الذي دعَّم سيطرة “المارونية السياسية”، برموزها المختلفة، على السلطة في لبنان حتى نشوب الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1989. هذه والآراء والأفكار نفسها، وما تناسل منها، شكّلت القاعدة الرمزية التي دفعت أغلبية أبناء الطوائف المسيحية – والموارنة خصوصاً – إلى منح ولائهم السياسي لرموز السلطة وأحزابها، وإعادة إنتاجها، ولو بتعديلات نسبية في حصة شراكتها السياسية مع “السنّيّة السياسية”. وهذا ما حدث في العهد الشهابي الذي أدخل بعض الضوابط على الاقتصاد الرأسمالي الحر، المتفلت من أي قيود قانونية تحدّ من الأرباح (الريعية في معظمها) التي كانت تجنيها طبقة الأغنياء (معظمها من المسيحيين). والمتفلت أيضاً (أي النظام السياسي – الاقتصادي اللبناني) من تحمل جزء من كلفة الخدمات العامة التي تقدمها الدولة لعامة الشعب. وهيمنة “المارونية السياسية” على السلطة، أو أرجحية حصتها الواضحة فيها، كانت لها أبعادها الاقتصادية، وملامحها في سياسة لبنان الخارجية، الإقليمية والدولية.

مارونية سياسية – اقتصادية
على الصعيد الاقتصادي، تمكن أركان “المارونية السياسية” وحلفاؤهم من استخدام سيطرتهم الراجحة على مؤسسات الدولة ومداخيلها في خلق شبكة واسعة من “الزبائن” أو الموالين. وهذا من طريق توزيع الوظائف العامة الحكومية على أبناء الطائفة المارونية في الدرجة الأولى، وأبناء الطوائف المتحالفة معها في الدرجة الثانية. واستخدمت هذه السيطرة على مناصب الدولة وأجهزتها القانونية والقضائية والتنفيذية، سبيلاً إلى الترسْمل والتربُّح من المشاريع الاستثمارية والإنمائية على اختلافها، وتغطية، بل تسهيل استثمارات طبقة الأغنياء في لبنان، مع ترجيح كفة جناحها المسيحي أو تفضيله على نحو دائم .

أما على صعيد السياسة الخارجية فكانت “المارونية السياسية” تقيم تحالفاتها – على الدوام – في المنطقة العربية وعلى الصعيد الدولي، على نحو يؤدي إلى تدعيم نفوذها في الداخل من جهة، ودعم نفوذ حلفائها من جهة ثانية، لتأمين اصطفاف السلطة – قدر الإمكان – إلى جانب سياسات “المارونية السياسية” ومصالحها في لبنان والمنطقة (حلف بغداد مثلاً؛ وتخلي الدولة عن مهمتها في الدفاع عن السيادة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية؛ التحالف مع دولة إسرائيل في مراحل من الحرب الأهلية: 1975 – 1989).

بناءً على هذه العوامل في الداخل والخارج، حافظت رموز “المارونية السياسية” على قاعدتها الشعبية، وتمكّنت من “شرْعَنة” وجودها في السلطة، أقله في نظر أغلبية أبناء طائفتها. من دون أن يعني ذلك أن شرعيتها السياسية المتمحورة حول “الطائفة ومصلحتها” لم تواجهها بعض المصاعب من داخل الطائفة، طوال هيمنتها على الدولة حتى العام 1975.

الشهابية واليسار والطوائف
كان أبرز هذه المصاعب، ذلك التحدي القاعدي أو “من تحت”، الذي جسده اليساريون المسيحيون ومؤيدوهم في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. وهناك أيضاً التحدي “من فوق” الذي بدأ مع العهد الشهابي، من دون أن يكسر فعلياً نظام الطائفية السياسية السائد في البلاد، بل أحدث فيه كثرة من التعديلات التي جاءت من خارج منطقه الطائفي الصارم. وفي الأحوال كلها، لم يكن مصير الشهابية وسياساتها الإصلاحية أفضل حظاً من مصير التحدي اليساري العابر للوسائط السياسية والطوائف ونظامها السياسي. فإذا كان صحيحاً القول إن رموز “المارونية السياسية” التقليدية تحالفت لإجهاض المشروع الشهابي، فإن إفشال المشروع “اليساري” تولته بأدوار ووسائل مختلفة الأحجام والأهداف، أحزابٌ “المارونية السياسية” وقوى “السنية السياسية” و”الشيعية السياسية” و”الدرزية السياسية”، كل منها حسب الظروف التي مر بها لبنان، بعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1977.

وهكذا انتظمتْ المعارضة السياسية، بالتدريج وفي مراحل متقطعة، على قاعدة طائفية، ولّدت تباعاً وعلى مراحل متقطعة، الطائفيات السياسية المذكورة. وإذا كانت الدرزية السياسية مكتملة المعالم ومميَّزة على الدوام (وهذا يعود إلى أسباب تاريخية لا مجال لسردها هنا)، فإن الطائفة الشيعية لم تحقق هذه المكانة، ولم تتحول لاعباً سياسياً مستقلاً إلا مع ظهور حركة المحرومين على يد الإمام موسى الصدر، في الستينات من القرن الماضي. ولاحقاً اكتسبت الحركة هذه دوراً سياسياً قوياً، بل طاغياً في سياق تكوّن الثنائي الشيعي السياسي، وبروزه على الساحة السياسية اللبنانية بعد توقف الحرب الأهلية عام 1989. وظلت “السنية السياسية” تتأرجح بين معضلة “الاتصال والانفصال”، في مسار تكوّنها التاريخي منذ نشوء لبنان الكبير، حتى حسمت أمرها بعد توقف الحرب الأهلية، فـ “تلبننت” في ظل بروز الظاهرة الحريرية، واتخذ “تلبننها” شكلاً حاسماً بعد اغتيال زعيمها رفيق الحريري.

لم يختلف نشوء هذه “الطائفيات السياسية” عن نظيرتها المارونية، إلا في المقومات والروافد التي حُشدت واستخدمت لشد العصب “الطائفي السياسي” لدى كل طائفة، استناد إلى الأبعاد والموارد الاجتماعية والثقافية التي تمتلكها.

فمقابل “الامتيازات” التي كانت تتمتع بها “المارونية السياسية”، رفعت قوى “الطائفيات السياسية”، كل على طريقتها، مطالب حرمانها من تلك الامتيازات وما تستجره من منافع (مضخمة بالطبع، لمضاعفة شد عصب جماهير الطوائف الأقل حظاً في الاستيلاء على مغانم الدولة ومواردها). وشكلت تلك المطالب والنزاعات على المناصب والمغانم الأرضية الخصبة لتعزيز “العصبية” الطائفية، التي تحولت ركيزة “خط (سياسي) جماهيري” يشكل الأساس الشرعي لقوى “الطائفيات السياسية” ورموزها التي تخاصم قوى “المارونية السياسية” ورموزها. دائماً كان لتلك “الطائفيات السياسية” من يناصرها ويدعمها من الخارج، أكان في العالم العربي أم على الصعيد الدولي، في وجه خصومها في “الداخل”. وعلى الدوام اتخذت “الطائفيات السياسية” من الصراعات الإقليمية والدولية مادة تتغذى منها. أما “جماهرية الطائفيات المعارضة”، فكان مطلب “المشاركة في السلطة” وتعديل الدستور لتأمين مشاركة “عادلة” في السلطة، شرطاً أساسياً لتأمين تأييد أبناء كل طائفة “مغبونة” لقواها السياسية ورموزها القيادية.

لا يختلف في هذا الوسط الاجتماعي المسيحي، عن الأوساط الإسلامية، ولم تنحصر التعبيرات السياسية دائماً في ما سميناه “الطائفية السياسية”، بل أخذت أحياناَ أوجهاً غير طائفية، يسارية وليبرالية وقومية وجهادية إسلامية. لكن جميع هذه التعبيرات لم يكتب لها التغلب على تعبيرات “الطائفية السياسية” في خضم الصراع، وأحياناً التعايش معها.

الطائف والوعود الخاوية
أخيراً جاء اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وبدأ عهد تطبيق الحكم الذي أمّن نسبياً مطلب المشاركة بين زعماء الطوائف الأساسية في لبنان (موارنة وسنة وشيعة ودروز، لكن شراكة الموارنة كانت ضعيفة ما بعد الطائف، مقارنة بالطوائف الثلاث الأخرى). وفي نظر “المارونية السياسية”، لم تقم تلك “المشاركة”  فعلياً إلّا بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005. وهذا لأسباب باتت معروفة للجميع.

وتبين تباعاً لجمهور الطوائف مدى خواء الوعود التي ضُربَتْ لهم، وتعهدت لهم بحل مشاكلهم بمجرد تحقيق مطلب المشاركة في السلطة بصورة ينهي نظام الامتيازات المسيحية في لبنان. والجمهور المسيحي الذي خرج مصدوماً من اتفاق الطائف، بسبب خسارته امتيازاته السياسية التي كان يتمتع بها في الماضي، تبين له أن عودة اللاعبين المسيحيين السياسيين الأقوياء إلى المشهد السياسي في لبنان – خصوصاً بعد انتهاء حقبة “الانتداب” السوري على لبنان، وحتى بعد إيصال الرمز الماروني الأكثر شعبية (أعني ميشال عون) إلى سدة الرئاسة – لم تؤد إلّا إلى المزيد من الإفقار وانسداد مجالات العمل والاستثمار، وانكشاف عجز الدولة المتصاعد في تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.

باختصار شديد، تبين تدريجياً لكثرة من أبناء الطوائف  -المشاركة قواها السياسية في الحكم، ولو بدرجات متفاوتة (لا يمكن لنظام الطائفية السياسية بالتعريف أن ينتج مساواة في ممارسة الحكم بين أطراف السلطة، لأن كل مكسب لطرف ما هو بالضرورة خسارة للأطراف الأخرى)، وخصوصاً منذ بداية عهد رئاسة ميشال عون الرئاسي عام 2016، والذي انتخبه ممثلو كتل سياسية طائفية وازنة، ولاحقاً بعد تشكيل حكومة “الوحدة الوطنية” بداية عام 2019 – تبيّن لجمهور الطوائف، بعد هذه التطورات كلها، الفشل الذريع لقوى جميع الطائفيات السياسية وأحزابها في لبنان.

هذا بالضبط ما يكشف عنه شعار انتفاضة 17 تشرين الأول المفتوحة: “كلن يعني كلن” المدوى عالياً في الساحات العامة في المحافظات اللبنانية. وتمثلتْ عناوين هذا الفشل الذريع أولاً، في عدم قدرة زعماء الطوائف على حل مشاكل أبناء طوائفهم، على ما كان يُصوَّر لهم دائماً في خضم الصراعات، سعياً إلى الشراكة الطائفية  في الحكم. ولدى تحقيق “الشراكة” المطلوبة تاريخياً من “زعماء الطوائف” الأساسية في البلد، ظهر – ثانياً ومع الوقت – عجز هؤلاء “الزعماء” عن إدراة الخدمات العامة والخاصة، وفي إدارة اقتصاد منتج وعادل يؤمن فرص العمل والنمو الفعلي للثروة الوطنية. وتجسد هذا الفشل المريع – ثالثاً – في تورُّط رموز السلطة وعلى المستويات كلها، التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة والإدارة العامة، في الفساد ونهب الأموال والأملاك العامة والتربُّح والترسمل من طريق استخدام النفوذ السياسي. وهذا ما أصبح محط تندر “الرأي العام” العابر للطوائف وسخريته وتهكمه، في محاولة لتبرير فشل كل طرف من الأطراف الممسكة بالسلطة، مستخدماً حجة “رمزية” واحدة: نحن مع تقديم الحلول السليمة لمشاكل البلد، لكن العائق هو الشريك “الآخر”. ومع استكمال دورة الاتهامات والاتهامات المضادة، اكتشف “الرأي العام” أن جميع رموز الطائفيات السياسية مسؤولة عن انهيار البلد.

جرى هذا كله في ظل سياسات اقتصادية نيو- ليبرالية كان رفيق الحريري رائدها الأول. ولم يتورع رموز الطائفيات السياسية الأخرى من تأييد هذه السياسة، والانتفاع من الفرص التي وفرتها لهم في سياق تربّحهم وترسْملهم غير المشروعين. وأخيراً، تبين تباعاً لأبناء الطوائف المأخوذين على مدار السنين بوعود القوى والزعامات الطائفية، أن أقصى ما يمكن أن تحققه تلك الوعود، هو انتاج شبكة من المنتفعين والمنخرطين غالباً في تعزيز فساد “زعمائهم” وسياساتهم الفاشلة في الدولة والاقتصاد. وشبكة المنتفعين لا يمكنها أن تشمل أكثر من نسبة عددية ضئيلة في كل طائفة، لا سيما في ظل السياسات الاقتصادية النيو- ليبرالية، والتي لا تنتج فحسب شحاً في موارد الدولة وترهلاً فائضاً في القطاع العام، بل تولّد أيضاً أزمات متتالية في الاقتصاد الوطني العام (أنظر مثلاً، نسبة النمو الاقتصادي المتدني سنوياً، والبطالة التي تتراوح بين 30 و35 في المئة،  ومستوى الدين العام (حوالى 90 مليار دولار أميركي)، وعدد المهاجرين سنوياً من لبنان، والذي  وصل عام 2018 إلى 300 ألف مهاجر، إلخ).

تبين هذه السطور العوامل التي أزّمت النظام السياسي الطائفي في لبنان، كجزء من آلية اشتغاله الداخلية، مع الإشارة إلى تغْذية هذه العوامل من المشاكل المتولَّدة من الاقتصاد اللبناني الريعي وسياسات النيو- ليبرالية والصراعات الإقليمية والدولية المحيطة.

ومع استنفاذ هذا النظام قدرته على ضخ الوعود – الأوهام، ليكتسب شرعيته في إعادة إنتاج “الخط الجماهيري” لقوى الطوائف وأحزابها الممْسِكة بمفاصل السلطة في لبنان، انفجرت ثورة 17 تشرين الأول 2019، ولا تزال أحداثها تتوالى حتى الآن.