كتب ابراهيم بيرم
… وفي اليوم الأربعين من عمر الحراك الشعبي في الشارع، انهى ثلاثي حركة “أمل” و”التيار الوطني الحر” و”حزب الله” فترة الاعصاب الباردة ولعبة الانكفاء من الشارع، وقرر القيام بهجوم مضاد في وجه فريق الرئيس سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط خصوصاً لإبراز أمرين:
– ان عملية الاستثمار الى اقصى الحدود في الشارع والتصرف به قد انتهت الى غير رجعة، وإن لم تتراجعا فلكل فعل ردة فعل من الآن فصاعداً، ولهذا الامر ترجماته أخيراً.
– ان مرحلة البحث عن اسم مقنع لخلافة الحريري في رئاسة الحكومة قد بدأت.
وفي الوقت الذي كان أحد أبرز وجوه هذا الثلاثي الرئيس نبيه بري يشن هجوماً لاذعاً وربما غبر مسبوق على الحريري، معتبراً انه استنفد وقته كاملاً، وانه (بري) قد خرج من لعبة المفاضلة بين الاسماء المرشحة، كان اسم الوزير السابق بهيج طبارة يعوّم بشكل جدي كمرشح لتأليف الحكومة المقبلة. وهذه الجدية تتأتى من جملة اعتبارات يمكن وضعها في ميزان حسنات الرجل، اذ انه لا تسجَّل اي شبهة حول اسمه، فضلاً عن انه كان لأعوام عدة واحداً من فريق عمل الحريري الأب ويحظى باحترام الجميع، لاسيما أنه آثر الابتعاد عن الواجهة قبل اعوام وأخذ جانب الاعتكاف.
وسواء مشى خيار طبارة أم لم يمشِ، وهو أمر يحتاج الى ساعات فقط لحسمه، فان رسالة الثلاثي اياه الى الرئيس الحريري قد تبدَّت اخيراً بأجلى صورها، وفحواها: “لقد أخذتَ فرصتك من تقليب الخيارات على وجوهها كافة، واننا في صدد الانتقال الجاد الى دائرة البحث عن شخصية سياسية سنية مستعدة للمضي قدماً في تحديات المرحلة المقبلة، وما زلنا مستعدين لان نكون شركاء معك في البحث وفي موجبات ومهمات ما بعد التكليف.
وفي الوقت عينه، كان الرئيس بري قد تلقّى اول من امس، اول رسالة معلنة من حليفه جنبلاط عبر موفد الاخير اليه الوزير السابق غازي العريضي. وثمة معلومات رشحت اخيراً تشي بانه حمل كلمة سر من جنبلاط تندرج في خانة عنوان عريض هو اننا مستعدون للتنسيق معك في المضي قدماً في تسوية ما نصل عبرها بعض ما انقطع بيننا. وهو امر قرأته جهات متخصصة بالعقل الجنبلاطي على ان “فترة الجلوس على التلة عند سيد المختارة قد انصرمت”.
واذا كان “حزب الله” يعتصم الى الآن بالصمت حيال موضوع السير بخيار من يملأ الفراغ في الرئاسة الثالثة، وهو الذي بقي على تمسّكه المعلن بخيار اعادة الحريري لاعتبارات سبق له ان اعلنها مراراً وتتصل برؤيته لحاضر الوضع السياسي ومستقبله، إلا انه يقر ضمناً بانه دفع الكثير من رصيده امام جمهوره وامام حلفائه ايضا بسبب اصراره على هذا الخيار وعلى ابقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الحريري، وتعامله مع خيارات كثيرة وردت اليه جوهرها السير بخيار آخر، قبل ان يحزم امره اخيرا ويأخذ قراره الحاسم الذي سعى الى تجنب الوصول اليه وعنوانه العريض: استرداد لعبة الضغط في الشارع والتلاعب به من يد الآخرين، ومن ثم ابداء الاستعداد للتخلي عن شعاره المبدئي وهو التمسّك بالشركة السياسية والحكومية مع الحريري، وإن احتاج الامر الى هذا المدى الزمني الذي يراه البعض اطول مما يلزم.
وعليه، كان الحزب يقول بداية لمن يسأله انه مضطر الى تحمّل هجمات متعددة صوبه وصوب قاعدته العريضة، وانه كان مكرهاً على بذل جهود جسيمة لضبط قاعدته والحؤول دون انفتاح ابواب المواجهات والاحتكاكات المحتملة في الشارع.
لذا لا يخفي الحزب ان امر مقاربة التطورات استهلالاً بأعصاب باردة وبصمت قارب احياناً حد الغياب والاحتجاب، كانت جزءا من سياسة اعتمدها لاستيعاب الهجمات والاستفزازات التي وجِّهت اليه خلال الاسابيع الخمسة الاولى التي اعقبت انطلاق الحراك، وكانت احياناً متعمدة، وهي سياسة أفصح لاحقاً انها كانت خيار الضرورة لاعتبارات عدة، ابرزها:
القاء الحجة على الآخرين بمن فيهم الحراك والشركاء بانه ليس في وارد العمل على اقصاء احد او القطع مع اي جهة، لذا فهو عرض عودة الحريري، وهو ايضا صاحب عرض تسمية من يرتئيه مع ضمان شركة “التيار الازرق” في اي تركيبة حكومية تستولد لاحقاً، فضلاً عن جملة تنازلات في شكل الحكومة ازعج بعضها حتى حليفه بري.
وفي الوقت عينه، كانت خلية الازمة التي ألَّفها الحزب لمتابعة الوضع ترصد بدقة، استناداً الى مصادر على صلة، غرفة عمليات خلفية للحراك مكونة من ممثلين عن القوى الثلاث تعمل بشكل ممنهج بالتعاون والتنسيق مع جهات داخلية وقوى خارجية لوضع اليد على الحراك وادارته بعيدا من قوى تتواجد في ساحتي الشهداء ورياض الصلح وهي خارجة عن ارادة القوى الثلاث.
وقد بادر الحزب بالتنسيق مع حركة “امل” إلى توجيه ثلاث رسائل ميدانية متتالية لمن يعنيهم الامر، متعمداً ان تكون “بروفات” اولية. ولكن بحسب تقويم المصادر نفسها فان الآخرين تعمدوا تجاهلها اعتقادا منهم ان الآخرين في وضع صعب وحدود الرد والحركة عندهم ضيقة الى اقصى الحدود.
وفي ليلة ما سمِّي لاحقاً “غزوة الخندق” كانت الرسائل اكثر وضوحا وإيلاما. فعلى سبيل المثال، لم تبادر الحركة والحزب، على جاري العادة، الى التنصل من الحدث، فضلاً عن ذلك كان الحشد استثنائياً بكل المقاييس. وكل ذلك كان رداً على معلومات وصلت الى الثنائي فحواها ان الطرف الآخر بات امام خيارات صعبة، فهو منزعج من سياسة الصمت وعدم تقديم تنازلات. في حين كانت لدى هذا الطرف معطيات جوهرها انهم امام فرصة اخيرة قبل ان يسير الغرب في خيارات مختلفة لا تتلاقى بالضرورة مع توجهات الحريري، لاسيما ان هذا الغرب قد قطع شوطا متقدما في تفهّم خيار حكومة تكنو – سياسية. لذا عمد هذا الفريق الى التصعيد وقطع طرق على نحو غير مسبوق، وكان يأمل ان تنتهي بعصيان مدني. واكثر من ذلك، عمد انصاره الى انتشار واسع أراد من خلاله اظهار ان العاصمة تحت قبضته وان الحزب ومن معه صاروا في وضع المحاصر والمعدوم الخيارات. وتقر المصادر اياها بأن ردهم اتصف بالضراوة لكي يثبت العكس، ما اضطر “التيار الازرق” في النهاية الى أخذ خيار الطلب من عناصره الانكفاء.
وفي كل الحالات، ترى المصادر عينها ان الحريري “أخذ فرصته، وبعدها صارت ابواب كل الخيارات مفتوحة امامنا”.