لا حدود للتناقضات التي يعيشها التيار العوني. فهو نشأ في الأساس على جملة تناقضات، تمزج بين الطموحات السياسية الشخصية، والاستيلاء على الشرعية وتحويلها بمؤسستها العسكرية إلى طرف في الصراع السياسي – العسكري، الأهلي (المسيحي – المسيحي) والطائفي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
تيار الضحية والجلاد
وتبلغ تناقضات العونية ومشكلتها حدود ضياع هويتها: بين اللبنانية المسيحية الطائفية، والوطنية اللبنانية المتعالية على الطائفية، والأقلوية المسيحية المشرقية، والمتحالفة مع سواها من الأقليات (الشيعية العسكرية أو الحربية).
ومسيرة ميشال عون تجسد هذه التناقضات كلها، فتختار من عناوينها هذه ما يناسبها، وفق مقتضيات الحاجة والمصلحة والظرف.
والتيار العوني يتفنن اختيار أدواره وتنقله بين تناقضاته التكوينية، فيلعب دور الضحية والجلاد في آن واحد. ومسيرته على هذا المنوال، مستمرة منذ أواخر الثمانينيات حتى الساعة. فبعد خوضه حربين متناقضتين ومدمرتين، عاد ميشال عون من المنفى مدعياً أنه راعي القرار 1559 وقانون محاسبة سوريا. لكنه سرعان ما قدّم نفسه وقدم لبنان بوصفهما ضحية لهذا القرار. ثم سارع إلى التحالف مع المستهدفين بالقرار إياه. بالتعطيل المديد دخل إلى السلطة، فعطّلها ليحقق ما يريده من مغانمها. وهو في سدتها واستمرّ يتصرف وكأنه في صفوف المعارضة.
ولعلّ أبرز ما يجسد الطبيعة العونية، هو موقف رئيس الجمهورية بعيد عودته من نيويورك، عندما سئل عن سبب أزمة الدولار والمحروقات، فأجاب: ليس لدي علم بذلك. أنا كنت خارج لبنان. ربما انتهزوا فرصة غيابي لافتعال الأزمة.
هذا الجواب على بساطته وهُزاله وهزليته، هو التعبير العميق عن طريقة تفكير العونيين الذين يعتبرون أنهم خُلقوا أو اختيروا لينضحوا براءة، ويكونوا أخياراً بين خبثاء وأشرار، في معاركهم الوجودية التي يربحونها فيما هم يخسرون، أو يخسرونها ويعتبرون أنهم ربحوها. وعندما تقع الكارثة، يتبرؤون منها ويرمونها على سواهم، منكرين أي علاقة لهم بما حصل، ويلعبون دور الضحية. أما عندما تبرز منافع في مجال ما، أو تسجيل نقاط سياسية في مسألة ما، فيتقدّمون الصفوف بصخب مطلقين الادعاءات الغوغائية.
الحرب الاستباقية
في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها لبنان، تستمر حربائية التيار العوني، صاحب الكتلتين الأكبر في مجلسي النواب والوزراء. لا يخجلون من تنصلهم مما يجري. ويزعمون أن ما يمنع تشكيل الحكومة هو “الطائف” الذي انتزع صلاحيات رئيس الجمهورية. لذا فالحكومة ورئيسها يتحملان المسؤولية. وهكذا شن العونيون حرباً استباقية على سعد الحريري، بعيد تقديمه استقالة حكومته، بغية تحميله مسؤولية الانهيار الذي سيحصل، مدعين أنه يتهرب من المسؤولية. وبعد الاستقالة مثل قبلها: لا يتوانى التيار العوني عن ادعاء أنه في موقع القوة، واستعاد صلاحيات رئاسة الجمهورية، وهمش دور رئيس الحكومة وقفز فوق دستور الطائف. وهو طوال السنوات الماضية كان واضحاً في تهميشه دور رئيس الحكومة، لصالح حصر القرارات المهمة في يد رئيس الجمهورية. وهذا ما يظهر جلياً في جلسات الهيئات التي يدعو عون لعقدها: تارة اجتماع حكومي، أو وزاري، وطوراً اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع، وسواها من اجتماعات مالية واقتصادية.
واستمراراً لمنطق التناقض إياه، تستمر العونية في تحميل مسؤولية ما يجري في البلاد للآخرين، متناسية وجودها في السلطة منذ أكثر من سنوات عشر. وهي صاحبة “العهد القوي” منذ سنوات ثلاث. والتيار الذي يعرقل اليوم ولادة حكومة تكنوقراط، عطّل للسبب نفسه سابقاً تشكيل حكومات كرمى لعيون صهر الجنرال. وبكل براءة ووقاحة يحمّل مسؤولية ذلك كله لسعد الحريري، مستعيداً في أدبياته تجارب تاريخية سابقة حمّل فيها مسؤولية اندلاع حروب ونزاعات لرؤساء حكومات سابقين كان يعيّنهم رئيس الجمهورية، وصلاحياتهم مقيدة. وهذا هو منهج العونية الدائم: تعمية ممنهجة على الواقع والحوادث.
استضعاف الحريري
تأخر تيار المستقبل في اكتشافه الخطأ الذي اقترفه بذهابه إلى التسوية الرئاسية لأسباب واهية. والمشكلة اليوم أصبحت أعمق وأعقد بكثير من مجرد انتخابات رئاسية. فما يجري هو تجاوز للصلاحيات وتعطيل البلاد. وهذا يرتبط بالتنازلات الهائلة التي قدمها الحريري على مذبح التسوية، فمنح عون وباسيل أكثر مما كانا يحلمان به. وهما عرفا كيف يبتزان الحريري: إن لم يحقق لهما ما يريدان، فهما قادران على إقالته وحرمانه من العودة إلى رئاسة الحكومة. وربما أشد ما أساءهم وأغضبهم هو استقالته التي أفقدتهم الورقة التي يتلاعبون بها.
ولكن المشكلة مع هذا العهد تبقى أبعد من كل هذه التفاصيل. ففي ظل حكومة الحريري، وحالياً في محاولة عون فرض عملية التأليف قبل التكليف، وفرض الشروط التي يريدها على أي رئيس للحكومة، يبدو رئيس الحكومة مجرد موظف عند رئيس الجمهورية. وعلى هذا الأساس خاض التيار الانتخابات النيابية، ساعياً لإنهاء اتفاق الطائف.
ينطلق عون وباسيل من منطق شعبوي وتفوّقي، يحمّل الآخرين المسؤولية عن أخطائهما. تماماً كما حُمِّلت وتحمّل أوزار الأزمات على اختلافها إلى رؤساء الحكومات، استناداً إلى تلاعب على عصب طائفي ومذهبي.
ويريد عون وباسيل الاستثمار اليوم في الأزمة الاقتصادية وفي الحركة الاحتجاجية لتعزيز صلاحياتهما وموقعهما في السلطة، انطلاقاً من تحميل المسؤولية إلى الحريرية، وسواها من القوى السياسية التي كانت في السلطة ما قبل مجيء عون.
لقد اختتم الرئيس أمين الجميل عهده بكارثة على لبنان والشرعية: تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، وتعيين عون رئيساً لحكومة عسكرية.
سكن عون القصر الرئاسي، وبدل العمل على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، خاض حربين طمعاً بالوصول إلى تسوية تبقيه في القصر رئيساً للجمهورية.
وما بعد الطائف جاء الياس الهراوي تجسيداً لحال الضعف المسيحي الذي سلّم لبنان بكامله إلى الوصاية السورية. وهذه حلقة من حلقات المشكلة الحقيقية: البناء الدائم على أخطاء. وهذا ما يفعله رئيس الجمهورية حالياً: تسليم لبنان لحزب الله والمحور الإيراني، وطلب المساعدات المالية من العرب لدعم لبنان، كلما وقع في مآزق اقتصادية.